تاريخ الجزائر في القديم من خلال كتابات ستيفان قزال Stéphane Gsell
ظلت كتابة تاريخ الجزائر في القديم حكرا على المؤرخين الفرنسيين الذين قاموا بتأليف عشرات الكتب، وكتابة العديد من المقالات في المجلات والدوريات كالمجلة الإفريقية ونشرتي الجمعيتين الأثريتين لمدينتي قسنطينة ووهران، معتمدين في ذلك على المصادر اللاتينية التي تمجد الإحتلال الروماني، من أجل تبرير الإحتلال الفرنسي للجزائر واعتباره عاملا محضرا ومكملا لسابقه. ولقد ظل الإحتكار الفرنسي الإستعماري لتاريخ الجزائر يؤثر بصورة سلبية على البحث في التاريخ القديم للجزائر، الذي حصره الفرنسيون في التاريخ السياسي والعسكري للشعوب الغازية مغفلين تاريخ السكان الأصليين أو معرجين عليه بصورة مقتضبة. ومن أجل إبراز أضرار هذا الإحتكار الفرنسي، اخترنا التحدث عن مؤلف “Stéphane Gsell” (التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية) والإشارة إلى مؤلفات أخرى، التي أرّخ من خلالها للقرطاجيين، والإحتلال الروماني، والممالك المستقلة التي ظلت في صراع مع المحتل الروماني لفترات تاريخية طويلة. وباعتبار قزال رمزا من رموز المدرسة التاريخية الفرنسية الإستعمارية، فإنّه ظل يعظم حضارة أسلافه الرومان، ويختلق الذرائع لقيام فرنسا باحتلال الجزائر. ونحن إذ نطرح كتاب قزال للدراسة، فإنّنا نسعى إلى إبداء بعض الملاحظات حوله وتبيان التشويهات التي تضمنها بالنسبة لتاريخ بلادنا، وأحقية المجتمع الجزائري في امتلاك تاريخه، والنظر بنظرة مستقلة وداخلية إلى ماضيه. كما أنّ تحرير تاريخ الجزائر القديم من الهيمنة الفرنسية قد يعيد له مكانته باعتباره مرحلة ذات أهمية كبيرة مثل بقية المراحل التاريخية التي مرّت بها بلادنا.
ستيفان قزال ومؤلفاته حول تاريخ الجزائر وإفريقيا الشمالية في القديم:
ولد ستيفان قزال في 17 فبراير 1864 بباريس، وقد اختص في تاريخ إفريقيا الشمالية القديم، وتاريخ الجزائر في الفترة الرومانية، كما يعد من الأثريين المرموقين ومن الشخصيات العلمية البارزة التي ساهمت في الإكتشاف العلمي للجزائر. وقد عمل أستاذا لتاريخ إفريقيا الشمالية في القديم بمجمع فرنسا (Collège de France) من 1912 إلى 1932، وانتخب عضوا بأكاديمية النقوش والآداب الجميلة في 1923، واستمر في نشاطه العلمي وفي التدريس بالمجمع حتى توفي في 01 يناير 1932. ولقد تعددت مؤلفات قزال التي تشمل مجموعة كبيرة من الكتب وعشرات المقالات حول تاريخ الجزائر القديم، وتاريخ إفريقيا الشمالية في المجلات المتخصصة، نحاول ذكر أهمّها وأشهرها وذلك حسب تاريخ صدورها ونبدأ بالكتب:
– Recherches archéologiques en Algérie, Paris, 1893, 434 pages.
– أبحاث أثرية في الجزائر.
– Guide archéologique des environs d’Alger, Alger, 1896, 189 p.
– الدليل الأثري لنواحي مدينة الجزائر.
– Musée de Philippeville, Paris, 1898, 89 p.
– متحف فليب فيل (سكيكدة).
– Fouilles de Benian (Alamiliaria), 1899, Paris, 50 p.
– التقنيات الأثرية ببنيان.
– l’Algérie dans l’antiquité, Alger, 1900, 84 p.
– الجزائر في القديم.
– Les monuments antiques de l’Algérie, Paris, 1901, 290 p et 447 p.
– الآثار القديمة في الجزائر (جزأين).
– Enquête administrative sur les travaux hydrauliques anciens en Algérie, Paris, 1902, 143 p.
– تحقيق إداري حول الأعمال المائية القديمة في الجزائر.
– متحف تبسة. Musée de Tébessa, Paris, 1902, 95 p.
– L’Algérie dans l’antiquité, Nouvelle édition, Alger, 1903, 150 p.
– الجزائر في القديم.
– Fouilles de Gouraya, Paris, 1903, 51 p.
– تنقيبات قوراية.
– Les industries indigènes en Algérie, Alger, 1903, 21 p.
– الصناعات الأهلية بالجزائر.
– Atlas archéologique de l’Algérie, Alger, Paris, 1911, 50 cartes et 510p.
– الأطلس الأثري للجزائر.
– Histoire ancienne de l’Afrique du nord, T.I, Paris, 1913, 544 p.
– التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية، ج1 .
– Khamissa, Mdaourouch, Announa, 1er partie, 1er fascicule, Alger, Paris, 1914, 114 p.
– خميسة، مداوروش، أنونة، الكراسة الأولى.
– Hérodote ,Textes relatifs à l’Histoire de l’Afrique du nord, Fasc. I, Alger, 1915, 253 p.
– هيرودوت (نصوص خاصة بافريقيا الشمالية)، الكراسة الأولى.
– Histoire ancienne de l’Afrique du nord, T. II, III, Paris, 1918, 475 p et 424 p.
– التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية، الجزأين II و III.
– Histoire ancienne de l’Afrique du Nord, T.IV, Paris, 1920, 515p.
– التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية، الجزء 4.
– Inscriptions latines de l’Algérie, T.I, Inscriptions de la proconsulaire, Paris, 1922, 458 p.
– النقوش اللاتينية للجزائر، الجزء I، نقوش البروقنصلية.
– Promenades archéologiques aux environs d’Alger, 1926, 168 p.
– نزهات أثرية في نواحي مدينة الجزائر.
– Histoire ancienne de l’Afrique du nord, T.V, T. VI, Paris,1927,297 p. et 302p.
– التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية، الجزأين V وVI.
– Histoire ancienne de l’Afrique du nord, T.VII, T. VIII, Paris, 1928, 312 p et 306 p.
– التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية، الجزأين السابع والثامن.
– Introduction de : Histoire et historiens de l’Algérie, in Pub, du centenaire de l’Afrique française, Paris, E. Alcan, 1931.
– مقدمة كتاب تاريخ ومؤرخو الجزائر(1).
هذه إذن مجموعة من مؤلفات قزال، يمكن أن نشير إلى أخرى كتبها مع مؤرخين آخرين مثل مارسيه “Marçais” وإيفر “Yver”(2)، ومقدمات كتب تاريخية كثيرة مثل كتاب (تاريخ إفريقيا الشمالية) لشارل أندري جوليان “Ch.A. Julien”(3). أمّا فيما يتعلق بالمقالات ونظرا لكثرة عددها فإنّنا سنقتصر على ذكر أهمّها، مراعين تسلسلها الزمني على النحو الآتي:
– Notes sur quelques inscriptions de Tipasa, BCTH, 1892, pp.319-321.
– ملاحظات حول بعض نقوش تيبازة.
– Exploration archéologique dans le département de Constantine-Ruines romaines au nord de l’Aurès, MEFR, XIII, 1893, pp. 460-541.
– الاكتشاف الأثري لمقاطعة قسنطينة: الآثار الرومانية لشمال الأوراس.
– Observations sur l’inscription des martyrs de Constantine, RSAC, XXX, 1896, pp. 212-217.
– ملاحظات حول نقيشة الشهداء في قسنطينة.
– Notes d’archéologie Algérienne, BCTH, 1899, pp. 437-464.
– ملاحظات حول آثار جزائرية.
– Découvertes en Algérie, BCTH, 1901, pp. 149-154.
– اكتشافات بالجزائر.
– Rapport archéologique sur les fouilles faites en 1901, BCTH, 1902, pp. 308-341.
– تقرير أثري حول تنقيبات 1901.
– Observations géographiques sur la révolte de Firmus, RSAC, T.34, 1903, pp. 21- 46.
– ملاحظات جغرافية حول ثورة فيرموس.
– Note sur une inscription de Sétif, RSAC, T.40, 1906, pp. 111-118.
– ملاحظة حول نقيشة عثر عليها بسطيف.
– Thanaramusa (Berrouaghia), R. Af., 1909, pp. 20-25
– تناراموزة (البرواقية).
– Le climat de l’Afrique du nord dans l’antiquité, R.Af., 1911, pp. 343-410.
– المناخ في إفريقيا الشمالية في القديم.
– Inscriptions découvertes en Algérie, BCTH, 1915, pp. 145-201.
– نقوش مكتشفة بالجزائر.
– Inscriptions latines d’Algérie, BCTH, 1919, pp. 141-150.
– النقوش اللاتينية بالجزائر.
– Juba II, Savant et écrivain, R. Af, 1927, pp. 169-197.
– يوبا الثاني، العالم والكاتب.
– Le christianisme en Oranie avant la conquête arabe, Bulletin du cinquantenaire de la société de géographie et d’archéologie d’Oran, 1928, pp. 17-32.
– المسيحية في القطاع الوهراني قبل الفتح الإسلامي.
وانطلاقا من هذه المقالات، تبدو لنا غزارة الإنتاج التاريخي لقزال «St. Gsell » حول إفريقيا الشمالية عموما، والجزائر خصوصا، غير أنّنا نشير إلى أنّ كتابه (التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية) يأتي في مقدمة هذا الإنتاج التاريخي الضخم.
التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية نموذجا:
كتب قزال موسوعته (التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية)(4) في الفترة الممتدة من 1913 إلى 1928، وقد قسمه إلى ثمانية أجزاء، تناول في الجزء الأول ظروف التطورات التاريخية خلال العهود البدائية والتواجد الفنيقي وقيام الإمبراطورية القرطاجية. أمّا في الجزء الثاني فقد تعرض للدولة القرطاجية وممتلكاتها الإفريقية، ثم انتقل في الجزء الثالث إلى التاريخ العسكري لقرطاجة حيث أرخ للحروب البونيقية، وفي الجزء الرابع اهتم بالحضارة القرطاحية في جانبها الاقتصادي والديني، وخصص الجزء الخامس للممالك المغربية القديمة، وتنظيماتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أمّا الجزء السادس فخصص للحياة المادية والثقافية والأخلاقية، ثم عرّج في الجزء السابع على الجمهورية الرومانية وملوك المغرب القديم، وختم كتابه بالجزء الثامن الذي أشار فيه إلى نهاية الممالك المغربية وبداية الاحتلال الروماني لبقية المقاطعات المغربية إثر الاستيلاء على قرطاجة في سنة 146 ق.م.
ويعتبر كتاب قزال هذا مؤلفا قيّما وجامعا يختلف عن الكتب التاريخية الأخرى التي خصصت للحديث عن المراكز التجارية القرطاجية، بالإضافة إلى حياة الملوك وقصورهم، في الوقت الذي أغفلت فيه السكان الأصليين وحضارتهم، هذا النقص الذي استدركه قزال في كتابه الذي وصف بالموسوعة، وأشار إلى أنّ تاريخ هذه المنطقة لا ينحصر في قرطاجة والمدن التي أحدثتها كمراكز تجارية، وإنّما يشمل الشعوب التي تقطنها والإمارات التي تكونت بها، والتي دخلت في حرب مع قرطاجة ومن بعدها الإمبراطورية الرومانية. ومما لا شك فيه أنّ العثور على النقوش والمسكوكات والأضرحة القديمة قد دعم المعلومات التاريخية التي تظهر صمود سكان المنطقة ضد الغزاة والمحافظة على العادّات والتقاليد ومنها: عفة المجتمع وطهارته، وهو ما جعل أفراده يعمرون طويلا(5).
ولا ريب أنّ هذا الكتاب نادر في غزارة المادة والتعمق في البحث إذ يمتاز بالعرض الشيق والتحليل(6). وقد تجاوز عدد صفحاته 1200 صفحة اعتمادا على المصادر القديمة التي كتبها مؤرخون لاتين وإغريق(7)، ألقى من خلالها قزال أضواء على تاريخ البلاد الحضاري الذي كثيرا ما أهملته المصادر القديمة، أو تحدثت عنه عند ارتباطه بتاريخ الغزاة مثلا، غير أنّ دسامة معلومات هذا المؤلف وتغطيته لفترة زمنية طويلة، لا تنفي سلبياته وتحيز قزال في جل الأجزاء التي يتكون منها كتابه، وهكذا يعتبر التواجد الفنيقي بافريقية احتلال، ويقرن بينه وبين بداية التاريخ في المنطقة، ويكرر كثيرا مصطلح هيمنة قرطاجة ويحط من قيمة السكان الأصليين الذين لا يعدون أن يكونوا في نظره أهالي (Indigènes)(8)، ونحن ندرك الازدراء الذي ينم عنه مصطلح الأهالي.
ولا يتوان قزال عن إصدار الأحكام انطلاقا من أفكار مسبقة، جعلت المؤرخ الفرنسي يعتبر الملك ماسينيسا قائد عصابة مغامرات أقحم نفسه في وضع ميئوس منه(9). وفي تعرضه لأخلاق ومعتقدات السكان الأصليين، يقع في مغالطة تاريخية مفضوحة تكشف عن أفكاره المسبقة اتجاه الإسلام والمسلمين، فهو يرى:” أنّ قرطاجة هي التي حضرت السكان الأصليين لاستقبال القرآن باعتباره كتابا وقانونا مقدسا”(10)، في الوقت الذي نعلم فيه الفرق الزمني الكبير الذي يفصل قيام الإمبراطورية القرطاجية منذ تأسيس قرطاجة في 814 ق.م والفتح الإسلامي للمنطقة في القرن السابع الميلادي.
وعند استعراضه للنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للممالك المغربية معتمدا في ذلك على السرد التاريخي، يشير إلى القبائل والأمّم والشعوب التي شكلت غالبية سكان المنطقة، ويعتبرها قبائل متناحرة وفوضوية ليست قادرة على تحقيق وحدتها أو التعاون فيما بينها، ويمجد الرومان الذي حققوا حسبه الوحدة الطبيعية والبشرية للمنطقة وشعوبها(11)، مغفلا عن قصد وحدة الجزائر في القديم على يد الملك مسينيسا. وغالبا ما يعقد مقارنات غير موضوعية ويقرن التاريخ القديم بالحديث، ففي معرض حديثه عن الحياة المادية والثقافية والأخلاقية للممالك المغربية(12)، ينتقل من القديم إلى الحديث ويقرر “أن الدول التي تشكل إفريقيا الشمالية لا تدوم إلاّ إذا نظمت، وهذه مهمة لا يدركها البربر ومزاجهم الفوضوي(13) “، وهذا إنكار صريح للفترات الزاهرة التي شهدتها المنطقة كفترة الفتح الإسلامي العظيم والدويلات التي تأسست بالمنطقة، ثم قيام إيالة الجزائر ووقوفها في وجه التحرشات والتوسع الأوروبي المسيحي.
ويواصل قزال إزدراءه لسكان المنطقة فيقول:”أنّ الأفارقة الشماليين لا يملكون مصيرهم بأيديهم، ذلك أنّهم ضيّقوا الآفاق، كما أنّ رفضهم الخضوع لقانون موحد منعهم من لعب دور تاريخي كبير، ومن البقاء أحرارا مدة طويلة، ومن ثم لابد على الأجانب أن يفرضوا على شعب المنطقة النظام والسلم”(14)، وعلى الرغم من اقتباسه فكرته الأخيرة عن زميله مارسييه “G.Marçais”، إلاّ أنّ تحيزه للفكر الاستعماري واضح وخدمته لقضية بلده الاستيطانية بارزة أيضا. ويجلي لنا هذا الأمر تبنيه للسياسة الفرنسية الاستعمارية. ولم يكن وصفه ليوغرطة أثناء مقاومته للرومان بسيد نوميديا(15)، إلاّ محاولة لتغطية التشويهات الصارخة التي تضمنها كتابه، فيما يتعلق بالتاريخ القديم لإفريقيا الشمالية عموما والجزائر خصوصا، وهو يلتقي في هذا التوجه مع مؤرخين آخرين شكلوا ما سمي بالمدرسة التاريخية الفرنسية التي اختصت في كتابة تاريخ الجزائر، ويصبح من الضروري تقديم بعض الملاحظات حول تجربة قزال وزملائه من أجل إبراز الأضرار التي ألحقتها بتاريخ الجزائر في القديم.
ملاحظات حول مساهمة قزال و المدرسة التاريخية الفرنسية في كتابة تاريخ الجزائر القديم :
هناك مجموعة من الدوافع حفزت قزال وبقية المؤرخين الفرنسيين على كتابة تاريخ الجزائر، يمكن أن نحصرها في مسألة الانتصار على الجزائريين واحتلال أرضهم، ثم كون الفرنسيين شعب مسيحي متحضر، بالإضافة إلى الرغبة في التعرف على شعب وقع تحت قبضة الاحتلال الفرنسي(16)، كي تسهل السيطرة عليه مدّة طويلة، ويمكن تقسيم مراحل البحث الفرنسي في تاريخ الجزائر إلى مرحلتين تشمل الأولى المؤرخين العسكريين وتمتد من 1830 إلى 1880، أمّا الثانية فتخص المؤرخين المختصين والتي تستمر من 1880 إلى 1954، ويسمي قزال المرحلة الأولى بالمدرسة الجزائرية القديمة، التي ضمّت عسكريين وتراجمة وهواة، مجدوا الحضارة الرومانية تمجيدا كبيرا. وساهم إنشاء المدارس العليا في 1880 وجامعة الجزائر في 1909 في ظهور الفئة الثانية من المؤرخين وإشرافهم على كتابة تاريخ الجزائر، وتبرز الدراسات التاريخية التي ظهرت في تلك الفترة مدى تبعية كتابة التاريخ للاستعمار، والذاتية التي ميزت المؤرخين وابتعادهم عن قيم البحث والأخلاق العلمية، وسعيهم من خلال هذه الكتابات إلى تبرير الاستعمار والعمل على إنجاحه واستمراره(17).
وضمن السياق ذاته يقول قزال في مقدمة كتاب “تاريخ الجزائر ومؤرخوها” ما يلي:”…سطر لنا التاريخ واجباتها أيضا (أي بالنسبة للجزائر)، وهي تتمثل في إرادتنا المصممة على أن نكون أسيادا في كلّ مكان وإلى الأبد، وفي ضرورة إقامة إعمار يستند إلى إسكان أوروبي قوي في الريف، كما يتمثل في ضرورة تقريب السكان منا رغبة وأملا في تحقيق انصهار على مدى قريب أو بعيد، إن هذا التاريخ إذن لا يعتبر في إفريقيا، هو أقل العلوم جدوى”(18)، ويعكس هذا النص التاريخي مركب التفوق الذي يعاني منه هذا المؤرخ، وانسلاخه من مبادئ البحث التاريخي النزيه ومدى استعداده للتعرف على الجزائريين والتقرب منهم كي يسهل على الدولة المستعمرة الهيمنة عليهم واستغلالهم فترة زمنية طويلة. هذا واستغل قزال والمؤرخون الفرنسيون الآخرون فترة الاحتلال الروماني، فأرادوا أن يربطوا بينهما وبين الاستعمار الفرنسي، وبالتالي تجاوز خمسة عشرة قرنا من تاريخ الجزائر، للوصول إلى نتيجة مفادها أن الوضع الطبيعي للجزائر هو وجودها في نطاق فرنسي أوروبي(19).
وإنّ أغلب الدراسات التاريخية الفرنسية المتعلقة بتاريخ الجزائر في القديم، تعتبر دراسات مغرضة، ذلك أنّها تستهدف تبرير الاحتلال الفرنسي عن طريق تصوير الواقع التاريخي للجزائر في القديم بصورة معينة تجعله يتماشى مع مصالح الاستعمار، وإخضاع منهجية ومتطلبات البحث إلى واقع الاحتلال ومرامي السياسة الاستعمارية. وقد أدّت هذه النظرة الفرنسية إلى تجاهل الوجود التاريخي للشعب الجزائري، واعتبار الجزائر منطقة فراغ حضاري، يفتقر إلى وجود شعب متماسك وأمّة متكاملة، ومن ثم أظهرت الجزائر بمظهر المنطقة الجغرافية التي تتعاقب عليها الدول، وتنتقل عبرها القبائل المتناحرة والمتقاتلة. ووصل قزال والمؤرخون الفرنسيون إلى ذروة أحكامهم المتحيزة عند الاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر في 1930 أثناء انعقاد المؤتمر الوطني الفرنسي الثاني للعلوم التاريخية تحت شعار تبرير الاستعمار والتأريخ له والسعي إلى نجاحه، مما حول المؤرخ الفرنسي في الجزائر إلى وسيلة من وسائل خدمة المصالح الاستعمارية والوقوف في وجه القضية الجزائرية العادلة(20).
وهكذا نلاحظ أنّ المؤرخين الفرنسيين من خلال هذه الدراسات التاريخية، قد تعرضوا إلى كلّ الموضوعات تقريبا ما عدا المجتمع الجزائري، الذي لم يسلموا بوجوده وعاملوا أفراده انطلاقا من مفاهيم السيطرة والقوة والإكراه، هذه المفاهيم التي جعلت الحكام الفرنسيين ينكرون وجود الجزائريين ويعملون جاهدين على تذويبهم، وهي نفس القوة التي أملت على كثير من المؤرخين الفرنسيين تشويه ماضي الجزائر والحط من عادات وتقاليد وثقافة شعبها(21). وعلى الرغم من غزارة الإنتاج التاريخي الفرنسي حول تاريخ الجزائر، وقربه من المنهج التاريخي الحديث، إلاّ أنّه خضع للظروف الاستعمارية، وبالتالي ابتعد أصحابه عن التعمق التاريخي، ومالوا إلى سرعة إصدار الأحكام، وفسروا الأحداث تفسيرا سطحيا ومتحيزا، لذلك يستلزم على الباحث في تاريخ الجزائر من الجزائريين وغيرهم تمحيص ومقارنة ونقد المراجع التاريخية الفرنسية حول الجزائر في القديم(22).
كما تستوجب دراسة تاريخ الجزائر في القديم الاعتماد على المصادر الأساسية والاستناد إلى الوثائق الأصلية من نقوش ومعطيات أثرية مختلفة، تشكل المادّة الخام لأي بناء تاريخي متعلق بماضي الجزائر. وتحقيقا لهذا المسعى يجب ترجمة الكتب التاريخية الفرنسية وتبيان انحرافاتها وتحيزها، ومنها كتاب قزال الذي قدمنا بعض الملاحظات بصدده في هذا البحث، وأن نهتم بالآثار التي تزخر بها الجزائر والتي أصبحت آثارا جزائرية الآن، وجزء لا يتجزأ من تراثنا لا من تراث غيرنا(23).
ولا يتأتى هذا الأمر إلاّ إذا اتبعنا في دراساتنا التاريخية منهجا موضوعيا يعتمد على التاريخ التحليلي والاستفساري والاستنتاجي، ونبتعد عن المنهج المبني على القصص والروايات، وهو ما سيبعدنا عن التاريخ الكمّي ويسمح لنا بالتركيز على التاريخ النوعي(24)، ولا يعني هذا الأمر عدم الاستفادة من التجربة الفرنسية في كتابة تاريخ الجزائر القديم، لكن يحسن التعرف الواعي على أفكار ونتائج هذه المساهمة، ثم العمل على تكييفها وجعلها تستجيب للتوجهات التاريخية والثقافية لبلادنا. وبذلك نعيد تاريخنا إلى المناخ الثقافي الوطني الذي يجب أن يكون من الأهداف الأساسية التي نتوخاها من وراء مجهود كتابة تاريخ الجزائر.
الهـوامـش:
Albertini (Eugène), Gsell (Stéphane) (1864-1932) , Bibliographie des travaux de Stéphane Gsell (avec portrait),R.Af.,1932,pp.20-53.
Gsell (St), Marçais (C), Yver (E), Histoire d’Algérie, Paris, 1927.
Julien (Ch.A.), Histoire de l’Afrique du Nord, Paris, 1931.
Gsell (St), Histoire ancienne de l’Afrique du nord, Osnabrück, Ottozeler Verlag, T.I – T. VIII, 1972.
المهدي البوعبدلي، موقف المؤرخين الأجانب من تاريخ الجزائر عبر العصور، مجلة الأصالة، العدد 14-15، 1973، ص 126-128.
إسماعيل العربي، مساهمة المؤرخين الفرنسيين وهل تصلح أساسا لتنمية تاريخنا القومي، مجلة الأصالة، العدد 14-15، 1973، ص 192.
Polybe, Histoire, trad. D. Roussel, Paris, Gallimard, 1970 ; Tite-Live, Histoire romaine, nouvelle traduction avec des notes par Eugène Lassere, Paris, éd. Garnier frères, 1935 ; Salluste, Bellum Jugurthinum, traduction A. Ernout, A. Gouarch, Paris, Les Belles Lettres, 1989.
Gsell (St), op.cit, T.I, pp. 359 -368.
Ibid, T. III, p.301.
Ibid, T. IV, p 498.
Ibid, T. V., pp 1.-25, 82-120.
Ibid, T. VI, pp. 1- 92, 93-244.
Ibid, p.281.
Ibid, pp 283-284.
Ibid, T. VII, pp. 153-265.
أبو القاسم سعد الله، منهج الفرنسيين في كتابه تاريخ الجزائر، مجلة الأصالة، العدد 14-15، 1973، ص 8-10.
نفسه، ص 12.
Gsell (St) et Autres, Histoire et historiens de l’Algérie, in Pub. du centenaire de l’Algérie française, Paris, E. Alcan, 1931, pp. 6-7.
محمد الميلي، نماذج من تشويه بعض المؤرخين الأجانب لتاريخ الجزائر، مجلة الأصالة، العدد 14-15، 1973، ص 63.
ناصر الدين سعيدوني، دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائرفي العهد العثماني، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1984، ص 34-35.
نفسه، ص 36.
ناصر الدين سعيدوني، ورقات جزائرية، دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر في العهد العثماني، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 2000، ص 12.
عثمان الكعاك، موقف المؤرخين الأجانب من تاريخ الجزائر، مجلة الأصالة، العدد 14-15، 1973، ص 149-153.
ناصر الدين سعيدوني، دراسات وأبحاث….، نفس المرجع، ص 46.
د. عبدالقادر صحراوي
جامعة سيدي بلعباس