أقدمية وأصالة المدن والممالك الأمازيغية في شمال إفريقيا من خلال النصوص القديمة
تكاد أن تصبح الفكرة القائلة بأن الامازيغ لم تكن لهم مدن خاصة بهم قبل وصول بحارة صورة الفينيقيين من المسلمات التاريخية خاصة في كتب العروبيين وبعض المؤرخين الاجانب المؤدلجين بالنزعة الاستعمارية المتعالية الذين أرخوا لمنطقة شمال إفريقيا وكأن الامر من اليقينيات التاريخية المحسومة والمبرمة !
إذا كان بعض المؤرخين القدامى قد تحدثوا في بعض الاشارات المبهمة في النصوص الاغريقية القديمة على تأسيس مدن فينيقية بسواحل شمال افريقيا قديما كما جاء عند المؤرخ اليوناني سترابون(01) ، الذي شكك هو نفسه في مصدر روايته ورجحها الى خانة الأساطير التي عرف بها المؤرخون الاغريق(02) ، فهذا لا يعني أطلاقا أن الأفارقة الليبيين لم يؤسسوا مدن لهم ،حتى وإذا لم يقدم لنا مؤرخو اليونان واللاتين إشارات واضحة تثبت صحة او بطلان ذلك ، كون الحديث عن الأفارقة الامازيغ من طرف المؤرخين القدامى جاء في اغلب الأحيان على هامش الحروب والنزاعات المشتعلة في المنطقة فقط .
وبما أنه لا يوجد أي نص تاريخي قديم ينفي على الامازيغ تشيد مدن لهم قبل وصول بحارة صور ،فهل هناك إشارات في تلك النصوص توحي بوجود مدن محلية قديمة وبالتالي عمران ومدنية قائمة تساعد المؤرخ المحلي على تحرير نقد علمي موضوعي لإثبات فرضية أقدمية المدن الشمال الافريقية ؟
للإجابة على هذه التساؤلات ما علينا سوى العودة الى نصوص مؤرخي اليونان واللاتين القديمة وحتى المصرية و قراءتها وتمحيصها بطريقة موضوعية ، ونبدأ من النصوص المصرية القديمة حيث نجد في مصدر مهم يعود الى تاريخ قبل الاسرات أي قبل الألف الثالثة التي لم يظهر فيها الفينيقيين والاغريق والرومان الى مسرح التاريخ في شمال افريقيا ، ونقصد بهذا المصدر ما يسميه خبراء المصريات والمؤرخين بصلاية الحصون والغنائم ، لوحة الليبيين ، صلاية الجزية الليبية أو لحة التحنو والتي تظهر في رسوماتها أن المصريين دخلوا الى أرض الأمازيغ التي كانت تسمى أنذاك ” ليبيا ” وقاموا خلالها بحرب ضد شعوب التحنو (التسمية المصرية للأمازيغ قديما) عاد المصريين بإنتصار باهر محملين بغنئهم كثيرة رسمت على اللوحة على شكل صفوف من الثيران والحمير والكباش من تحتها أشجارا زيتون وكتب بجانبها علامة تصويرية تُعتبر على أقدم العلامات الكتابية وتدل على كلمة ”تحنو“ بمعنى ارض ليبيا اﻟﻤﺠاورة والأهم من كل هذا رسم في نفس اللوحة مجسمات مستطيلة إتفق كل علماء المصريات على أنها مدن ليبية محصنة ، كانت متحالفة فيما بعضها ضد المصريين ، ورد بداخلها علامات الهيروغليفية فسرها المؤرخون على انها أسماء تلك المدن، وهذا أكبر وأقدم دليل على وجود مدن امازيغة محلية تأكدت من خلال صورة الغنيمة التي حصل عليها المصريين بعد الحرب والتي تترجم الثروة الفلاحية من ماشية وعبيد (كثرة السكان) وزراعة الزيتون الذي يترجم الاستقرار والاستقرار يعني العمران (03).
ثم نعود الى نص المؤخ سالوست اللاتيني رغم أنه ليس الأقدم مقارنة من النصوص الإغريقية إلا ان سياقه الزماني أقدم . فقد وردت عبارة هامة في النص الاسطوري للمؤرخ الروماني سالوست الذي قال : ” اندمج الميد والأرمن في الليبيين وعُرف الجميع باسم المور (Maures ) وشيدوا منذ وقت مبكر مدننا، وكانوا يبادلون منتوجاتهم مع إسبانيا ” جاءات هذه الرواية في حديث سالوست حول أصول سكان شمال افريقيا حيث قال أن المنطقة كان يسكنها الليبيون والجيتول ثم ذاب فيهم عنصريين من الشعوب القادمة من اسبانيا وهم الميديين والأرمن الذين كانوا في الجيش الهرلقلي (Les Héracliades) بعد وفاة هرقل ، وما يهمنا أكثر في هذه الرواية هو أن الليبيين الأمازيغ قد عرفوا التمدن والتجارة وبالتي الحضارة قبل وصول بحارة صور الفنيقيين الى سواحل شمال افريقيا ،وقد اكدت دراسات حديثة وجود تجارة وملاحة بحرية بين الشمال الافريقي وأوروبا قبل وصول الفينيقيين (04)
فسالوست في روايته هذه كان يتحدث عن أصول الليبيين في العصور البدائية للمنطقة ، أما توضيفه لعنصر أجنبي فارسي وميدي فقد فصل فيه المؤرخين من انه محاولة منه لإيجاد أصل منطقي لأسماء التجمعات الليبية المنتشرة في الفترة الرومانية ،التي كان هو حاكم لمقاطعة افريقيا ، باستعمال مقاربة لغوية لتفسير الاسماء لم يسلم فيها من الخطأ والخلط ، فقد أجمع المؤرخون المحدثون على ان قصة هرقل وجيشه العظيم مجرد اسطورة من الميثولوجية الاغريقية لم تثبتها الحفريات ، و فسر المؤرخ المعاصر قزال استعمال سالوست لكمة فرس (Persac)الى كونه حاول تفسير الاسم (Perorsi) أو (Pharusi) وهم أمازيغ كانوا يقطنون أراضي على السواحل الأطلسية في المغرب (05)
اما توضيف الميديين (Medes) في القصة فكان محاولة لتفسير اسم ” المور” عن طريق المقاربة اللغوية كذلك حيث كان الاغريق معروفون بها قديما خاصة وأنهم هم من فسر اسم النوميدين بالنوماد (Nomaddes)، تأثر بها اللاتين لاحقا ، وهو ما ذهب اليه حتى المؤرخ قبريال كامبس ، بينما أكد هيردوت في القرن الخامس ق.م على الوحدة الاثنية لسكان منطقة شمال افريقيا حيث تعيش فيها حسبه ” أربع أمم لا أكثر، اثنتان منهما أصليتان واثنتان غير أصليتين، فالليبيون في الشمال والأثيوبيون في جنوب ليبيا أصليون ، أما الفينيقيون والإغريق فأنهم استقروا فيها فيما بعد “(06). وقال كذلك ” المنطقة الساحلية من ليبيا الممتدة من مصر الى رأس سوليس الذي يسجل نهاية القارة الليبية الى الغرب آهلة بالليبيين “(07) ، وهو ما يتفق مع رواية سالوسوت الذي قال أن السكان الاوائل لشمال افريقيا هو الجيتول والليبيين ، والليبيون هو المصطلح القديم الذي أطلقه المصريين والإغريق على الأمازيغ (08) أما الجيتول فهم أمازيغ الجنوب الرحل غير مستقريين وهم أسلاف الطوارق حاليا (09) فالفرق بين الليبي والجيتولي هو في نمط العيش بين الليبي المزارع والمستقر في الشمال والجيتولي الرُحل في الجنوب وليس فرق إثني .
نعود الآن الى أقدم النصوص الاغريقية التي أرخت لإسطورة وصول بحارة صور الفينيقيين الى تونس واحتكاكهم بالسكان المحليين ، وهنا نجد في رواية تعود الى القرن التاسع ق.م، حيث جاء ذكر لملك محلي مع اسطورة تأسيس قرطاجة، وهي رواية يوستينوس أو جُسْتان justin نقلا عن الطْروكا بومبي (Trougue Pompée) الذي تحدث في روايته عن ملك السكان المحليين الذين سماهم جوستان المكسِطانيين (Maxitani ) ذكرهم المؤرخ أوستاث بالمازيكس (Mazikes) ،وهو تحريف لاتيني لكلمة مازيغ ( Mazigh) ، تقول الرواية أن ملك المازيكس أو الأمازيغ هيرباص (Hiarbas) قد طلب يد الملكة الصورية عليسة قبل ان تنتحر(10) .
ثم بعد ذلك فرض هذا الملك على الوافدون الجدد (الفينيقيين) ،الذين بنى لهم الأهالي المختلطين والمرحبين بهم مدينة قرطاجة ، ضريبة سنوية تدفع لصاحب الارض (الامازيغ)، وبقي الامر على ذلك الحال تدفع قرطاج الضريبة للأقوى حتى النصف الثاني من القرن الخامس ق.م، كما جاء عند نفس المؤرخ (11).
و جاء عند المؤرخ قزال (Gsell) كذلك قوله : “... نفس الكاتب (يقصد أوستاث) يطلق مازيكس Mazikes على الأهالي الذين أطلق عليهم جُسْتان مكسطاني . وسيرفيوس الذي يستشهد “بتاريخ بونيقي” كان يعرف شخصا اسمه يوباص Jopas ملك الأفارقة، وأحد طالبي الزواج من ديدون إذ يقال إن عددا من الامراء الأهالي طلبوها للزواج، كما يذكر ذلك فرجيل أيضا، كما يضيف سيرفيوس أن هذا الأخير (يقصد يوباص Jopas) أعلن الحرب على القرطاجيين (12)” .
من هذه الرواية التي نقلها هؤلاء المؤرخين يتأكد لنا وجود أكثر من ملك في القرن التاسع ق.م عند وصول بحارة صورالفينيقيين الى سواحل تونس ، ولما نبحث في مدلول عبارة (ملك المازيكس) أو (ملك الأفارقة) و ملك يفرض الضرائب حتى النصف الثاني من القرن الخامس ق.م التي كانت فيه قرطاجة قوة بحرية مسيطرة ، وملك أخر يعلن الحرب على قرطاجة ، يعني بطبيعة الحال وجود مملكة شاسعة وقوية تعكس قوة هذا الملك وتحمي أملاكه وتستوعب حاجيات جيشه القوي ، ومن خلال أسماء هؤلاء الملوك المذكورة في الرويات المؤرخة لفترة القرن التاسع ق.م مثل هيرباص Hiarbas و يوباص Jopas الذي تتكرر هذا الاسم في العائلة الماسيلية الاخيرة في يوبا الأول والثاني مع حذف القرينة S التي يضيفها الاغريق للأسماء في لغتهم ، يتجلى لنا دليل آخر ،على ضوء هذه الروايات القديمة ، على عراقة وقدم العائلة والمملكة المسيلية على الاقل منذ القرن التاسع كما جاء في الروايات القديمة الى غاية سقوط نوميديا على يد الرومان .
وللبحث عن إشارات تدل على استمرار هذه العائلة الملكية المسيلية خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة ، عبر النصوص الأدبية القديمة ، خاصة بعد القرن الخامس ق.م، يتبين لنا ان رواية استمرار قرطاج في دفع الضريبة للمولك الماسيل من أحفاد الملك هيرباص ،هي دليل قاطع على إستمرار قيام مملكة الماسيل ووجودها ، كما نجد حديث في رواية للمؤرخ الملطي (13) الذي عاش في القرن الخامس ق.م عن مدينة ليبية أمازيغية في الشمال الشرقي للجزائر والشمال الغربي لتونس ما بين بنزرت وعنابة تسمى كوبوس (Cubos). ونجد أشارات أخرى تخص القرن الرابع ق.م ، حيث جاء أيضا عند جُسْتان justin حديث عن ملك أمازيغي آخر يدعى “ماورى” تحالف مع حنون لما حاول الانقلاب على عرش قرطاجة والاستلاء عليه (14) ، كذلك جاء عند ديودور الصقلي في نفس الفترة الزمنية حديث عن جد العاهل ماسينيسا الملك إيليماس (Ailymas) الذي تحالف مع أغاثوكليس على قرطاجة(15)
نستطيع الاستفادة من نص تاريخي آخر ورد في رواية هسياناكس وقعت أحداثها خلال منتصف القرن الثالث ق.م جاء فيها ذكر المملكة الماسلية حيت تتحدث الرواية عن مغامرة قام بها أحد ليغاتي ريغولوس وهو المسمى كلبورنيوس كراسوس (Calpurnius Crassus)، الذي تم ارساله إلى مملكة الماسيل من أجل الإستلاء على قلعة تسمى قارايتيون (Garaition) إلا انه فشل وقبض عليه وكان سيقدم قربانا لبعل أمون لولا أن بيسالتيا وهي ابنة الملك قد تدخلت وأنقذته (16).
وإذا أخذنا برواية المؤرخ ديودور الصقلي الذي أشار إلى أن عاصمة الملك إيليماس ، كانت مدينة توكاي (دوقة) بتونس كما يرجحه أيضا غبرييل كامب(17) فستتضح لنا الصورة أكثر بأن مملكة الماسيل كانت تشمل حتى التراب التونسي بما فيه الأرض التي بنيت عليها قرطاج وأن الممالك الماسلية كانت مالكة لتلك الارض قبل وصول بحارة صور وظهور قرطاجة، وأفضل دليل يثبت لنا هذا الكلام هو معاهدة زاما التي نصت على أحقية الملك الماسيلي ماسينيسا استعادة أراضي أجداده المحيطة بقرطاجة ، و مناطق النفوذ البوني ، فقد استرجع ماسينيسا أكثر من 50 مدينة وقرية من السيطرة القرطاجية بعد تلك الاتفاقية (18) وسارع الزمن لإنهاء سيطرة الجالية المشرقية بقرطاج في المنطقة لتحقيق مشروعه الرامي الى توحيد شمال افريقيا ، مما أربك روما التي أدركت نواياه وطموحاته وتدخلت لتدمير قرطاجة ،لمنع ماسنيسا الذي أسس فيها حزبين سياسيين يطالبان مبايعة قرطاجة لماسينيسا والانضمام الي حكمه، من استلائه عليها و تحوله الى حنيبعل جديد في المنطقة يهدد أمبراطورية روما مستقبلا .
هناك كذلك حديث عن مدينة ليبية كبيرة، وهي مدينة تيفست خلال القرن الثالث ق.م التي وقع جدل بين المؤرخين بخصوص ثرائها وكثافة سكانها الكبير حيث تحدث كامس نقلا عن المؤرخ الاغريقي ديودور عن مدينة ليبية كبيرة يسميها ديودور هيكاطومبيل (Hécatompyle) أرجعها المؤرخون الى مدينة تيفست في الفترة الرومانية (تبسة حاليا) ، وهذه المدينة التي استولى عليها حانون القرطاجي حوالي 247 ق.م والذي اصبح سيدا عليها لفترة قبل أن يترك لها حريتها ، وهو دليل على أنه لا دخل للقرطاجيي ولا الفينيقيين في بنائها ، كانت فاحشة الثراء حسب ما نقله لنا ديودور ، حيث قال أيضا ان حانون أخذ 3000 رجل من تلك المدينة كرهينة وهو ما يترجم لنا الكثافة السكانية للمدينة حيث اعتبر المؤرخ كامبس ان عدد هذه الرهائن الذين أٌخذ كل شخص من عائلة واحدة يرجح ان تكون هذه المدينة ب 15000 نسمة على الاقل في القرن الثالث ق.م وقارنها بمدينة تيبازة وجعل مساحتها ب 60 هكتارا خلال تلك الفترة(19) .
يقول كبريال كامبس ” وتوحي بعض النصوص التي تعود الى فترة ما قبل حكم ماسنيسا بوجود مدن داخلية ( دوقة، تيفيست، سيرتا) التي يجمع الكل على انها ذات منشأ أهلي ” (20) ،وتجدر الاشارة هنا إلى ان قرطاج في هذه الفترة (القرن الثالث ق.م) كانت فقيرة بالنسبة لمدينة تيفست التي سعت الى الاستلاء على اموالها وخير دليل على هذا هو عدم مقدرة قرطاج حتى دفع أجور جندها الليبي ،في أغلبيته الساحقة، بعد هزيمتها في الحرب البونية الاولى، وهو ما ترتب عنه تمرد وثورة الجند المأجور بقيادة القائد الليبي ماطو التي يسميها بوليب الحرب التي لا تغتفر 241-237 ق.م
ان المتتبع لأفكار بعض المؤرخين المعاصريين ، المروجين لفكرة الاصل المشرقي للمدن الأمازيغة في شمال افريقيا ، خاصة الفرنسسين منهم والعروبيين ، يتبين له أن هذه الافكار نابعة عن توهمات واستنتاجات سطحية غلبت عليها النزعة الاستعمارية المتعالية ، فهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث للإجابة عن السبب الذي منع الليبيون الأمازيغ ، في حالة صحة نظرية ببعدهم عن التمدن كما يزعمون ، من جلب ونقل خبرة أبناء عمومتهم المصريين في البناء والتشيد الذي أبدعوا فيه ، وهم الذين احتكوا بهم منذ الالف الثالثة ق.م على الاقل ، بل كانت مصر واحتهم ، حتى ينتظروا وصول بحارة صور الفنيقيين ليتعلموا منهم الهندسة والبناء ؟
ثم إن الأضرحة الملكية الامازيغية مثل ضريح مدغاسن وضريح سيرتا وقبر الرومية والصومعة وأهرمات لجدار … كلها هندسة معمارية ،لا ريب في محليتها وأصالتها ،تعكس لنا الذوق والخبرة التي امتلكها البَنَاء ،الذي لا بد وأنه أبدع بمثلها أو أجمل منها لبناء مدنه في كل من سيرتا (CIRTA) قسنطينة حاليا التابعة لقايا ثم سيفاكس ثم ماسنيسا وميكيبسا ، سيقا (SIGA) بعين تيموشنت لسيفاكس ثم بوكوس ، يول (IOL)شرشال لميكيبسا يوبا الثاني ، بولة ريجيا (BOULLA REGIA)حمام الدراجي بتونس تابعة للملك يارباص ، زاما(ZAMA) ،جاما بتونس حكمها يوبا الاول وكذلك مدينة إيكوسيوم (ICOSIM)، كامارتا (CAMARATA) ،قونوقو (GUNUGU) ، لارس (LARES) ،صالداي (SALDAE) و ريجاي (REGIAE)….
كذلك المدن الامازيغية التي أكد المؤرخ ديودور ليبيتها وأصالتها وهي كل من فيلني (Phelliné) ماسخيلا (Maschela) ، أكريس (Acris) ، ملتين (Meltine)، وثلاث مدن تحمل اسم (Pithécoussal) بيتكوسال (21)
وقد صرح كامبس بتصريح مهم حول مدينة تيفست حيث قال ” … لم تكن قرطاج لتستولي على مناطق جرداء أو غير مجدية زراعيا، وأغلب المدن الواقعة داخل الٌإقليم البوني ذاته تحمل أسماء ليبية… ومن يوم لآخر تكشف التنقيبات الأثرية في الطبقات الرومانية والبونية عن تجمعات أهلية منظمة إلى حد ما ولكنها عارفة بالفلاحة ومستقرة في تجمعات عمرانية، والمثال على ذلك تيفست التي فُرض عليها تسليم 3000 رهينة من أبنائها خلال منتصف القرن الثالث ق.م وهو الدليل على أن الأفارقة القدامى لم ينتظروا السيطرة القرطاجية او الرومانية لتشيد المدن “(22)
هناك نقطة مهمة يجب استخلاصها من نقيشة مدينة دوقة التي كتبت بالليبية والبونيقية، وهو أن النص الوارد في النقيشة قدم لنا نظرة عن التنظيم الاداري لهذه المدينة ،والذي من خلاله يمكن لنا رسم تصور تقريبي عن بقيت المدن التي لا نملك وثائق مهمة تترجم لنا صورة عنها ، فقد كان لمدينة دوقة مجلس مواطنيين وبإسمه كتب نص إهداء معبد ماسينيسا المشهور ويتكون هذا المجلس من ” ملك” الذي جاء اسمه في النص الليبي بأغليد GLD و جاء في النص البوني ” م م ل ك ت ” MMLKT يتجدد كل سنة ، وكذلك يتشكل من إثنان من رؤساء المائة و ” م س س ن و ” MSSKW و ” ق ز ب GZB و ” ق ل د ق م ي ل GLDGMIL وقائد الخمسين (GLDMçK) الأهمية تكمن أن المؤرخين قد اكدوا على محلية هذا التنظيم وكونه ليبي أمازيغي ودليلهم على هذا هو أن هذه المصطلحات جاءت في النص البوني بصيغتها الأمازيغية ولم تترجم ولا اثر لهذه المصطلحات والوظائف الادارية خارج شمال افريقيا ما عدى وظيفة رئيس المئة المعروفة في صور حسب بعض المؤرخين، وهو أمر شكك في صحته كامبس (23). وإذا اخذنا بعين الاعتبار أن مدينة دوقة تقع في تونس وهي من بين المدن الأقرب الى قرطاج حيث التأثير البوني ورغم ذلك فقد حافظت على تميزها من التأثير البوني فمن المنطقي ان تكون المدن البعيدة عن قرطاج ومناطق التأثير البوني أكثر استقلالية وتميزا من دوقة .
لقد بات واضحا أن المؤرخون المعاصرين قد وقعوا في مغالطة ، لا يستبعد أن تكون مقصودة لأغراض استعمارية ، لما اعتبر بعضهم امتلاك الجالية المشرقية للمدن المنتشرة في سواحل شمال افريقيا ، دون تقديم الأدلة المنطقة الكافية لإثبات ذلك، خاصة أن عِلم المؤرخين الغربيين للعمران والآثار في فينيقيا جاء متأخر مقارنة بدراستهم لأثار شمال افريقيا لإجراء المقارنة ، فكيف لهذه الجالية التي لم يعرف عنها الا خمسة او ثماني مدن، أقصى تقدير، في موطنها الاصلي بفنيقيا أن تبني كل هذه المدن في سواحل شمال إفريقيا كما يزعمون ، علما أن سكان مدينة صور هم هاجر الى تونس غرب المتوسط، فإذا كان كل الشعب الذي عرف تاريخيا بالفينيقيين في الساحل السوري القديم قد إستوعبته خمس او ثمانية مدينة فكيف سيبني أكثر من 100 مدينة في شمال افريقيا لجزء بسيط من شعبه (سكان مدينة صور) الذي قيل انه هاجر الى غرب المتوسط قصد التجارة أو بناء مستعمرات كما يدعي البعض ؟ وفي حالة ما إذا سلمنا أن السكان المحليون هم سكن تلك المدن فهل من المعقول أن نقول أن هذه الجالية قد شيدت هذه المدن دون تدخل الأهالي الذين عمروها ؟
إن التفسير المنطقي لهذه الاشكالية هي أن المغالطة قد وقعت في الترجمة ، حيث أن القرطاجيون لما نقلوا أسماء المدن الأمازيغية قاموا بترجمتها الى لغتهم ، فنقلها المؤرخون اللاتين والاغريق على ذلك النحو من خلال الكتب التي وصلتهم بعد حرق قرطاج ، وهناك اشارة حول هذا نقلها لنا المؤرخ ديودور الصقلي وأكد فيها أنه تمت حقا ترجمت أسماء المدن الى الاغريقية (24) ، دون اقصاء تأثير بعض مظاهر الثقافة الفينيقية في ساكنة تلك المدن من الأهالي ، والتي استعملها لاحقا هؤلاء المؤرخين كدليل لمحاولة شرقنة أصولها، .فالقرائن التي بحوزتنا تفيد أن كل ما كان لقرطاج خارج منطقتها هو عبارة عن مصاريف تجارية (Comptoirs commerciaux) على السواحل ، فمن المعروف تاريخيا أن قرطاج لم تبدأ توسعها في ارض افريقيا أي خارج قرطاج الا بعد 406 ق.م. وقد وصلت حدود نفوذ قرطاج الى الحدود الجزائرية التونسية اليوم .
كما يِؤكده المؤرخ قزال في قوله :” أنشأت قرطاج منطقة حكم لها في قسم من البلاد التونسية في القرن الخامس ق.م ، وبدأ تركيزهم على النفوذ في المناطق الغربية للساحل بين قرطاج واعمدة هرقل منذ القرن الرابع ق.م ، وقد خاض القرطاجيون حروب ضد النوميديين والموريين في 475-450 ق.م ” (25) ، والحقيقة أن هدف التحالف الذي أبرمته روما مع الملك سيفاكس سنة 213 ق.م كان لغرض منع قرطاج حليفة المسيل من استعمال الموانئ الغربية في ماسيسليا (أراضي سيفاكس) في حربها باسبانيا ، وقد استطاع الملك سيفاكس (205ق.م) استرجاع سيادته على ميناء ثابسوس –روسيكادا Thapsus Rusicade الذي كان تحت النفوذ القرطاجي(26)
أما عن المستعمرات الفينيقية التي تحدث عنها بعض المؤرخين أمثال غزال الذي قال : ” … يجب الاعتراف بأن أصول تاريخ الفينيقين بافريقيا مغشاة بظلام كثيف … وبعدما تعرفوا على خيرات البلاد ، أنشأوا مستعمرات حقيقية ،لا مجرد محطات, ويحتمل أن هذه المستعمرات لم تكن كثيرة العدد، لأن المهاجريين لم يكن عددهم كثيرا، وقد سبق أن رأينا أن النصوص تذكر خمسا أو ستا من هذه المدن فحسب ” (27) ويناقض نفسه في موضع آخر بالقول : ” فلقد أسس الفينيقيون على السواحل مستعمرات كان أكثرها منغلقا على نفسه بشدة داخل الأسوار، أو لم تكن له سوى أحواز ضيقة . وقرطاجة لم تعتزم إلا بعد اكثر من ثلاثة قرون على احتلال منطقة يظهر أنها لم تمتد لما وراء البلاد التونسية الشمالية. وزيادة على هذا، ليس هناك ما يؤكد أن الفاتحين (يقصد الفينيقيين ) استعمروا هذه المنطقة استعمارا واسعا . (28) .
فهذه “المستعمرات الفنيقية” ،و إن كانت منغلقة على نفسها و عددها قليل كما قال قزال ، لابد أن في الكلام مبالغة كبيرة ، فأغلب الظن أنها مدن محلية اختلط سكنها مع الجاليات المشرقية لأجل التجارة ، غلبت أو بدت عليها بعض مظاهر الثقافة البونية التي ثبت تاريخيا تأثر الليبيين الامازيغ بها مما جعل بعض المؤرخين ينسبونها الى الجالية المشرقية إن طبيعة الأمازيغ المتمردة ضد الغزاة والتواقة الى التحرر كما نقلته لنا كتب التاريخ كانت ستقتلع هذه المستعمرات لو لم تكن مجرد محطات على مدن تجارية ساحلية محلية التشيد او تحقق فيها اتفاق بين الطرفين على تشيدها لتحقيق المصلحة المشتركة وهي المبادلات التجارية بين الامازيغ الذين يبيعون منتوجاتهم او يستبدلونها بغيرها من عند الفينيقيين الذين كانوا يسوقونها الى بلدان البحر البيض المتوسط . .
إن الكثير من المدن التي قيل عنها أنها رومانية أو فينيقية ما هي في الحقيقة إلا مدن محلية كما أتضح لغابرييل كامب وغيره كما أسلفنا، فالعدو لما يغزو أرضا ما لا يستعمر أرض جرداء لا فائدة منها بل يتجه مباشرة نحو السيطرة على المدن الآهلة والمحصنة لتجنب المقاومة ولإخضاع أهلها للظرائب التي تشكل مدخول الدولة ولإستعمالهم في الفلاحة والجندية أو كعبيد ، ومع الوقت يقوم بإظافة لمسته الخاصة الى تلك المدينة ببناء معابده الخاصة بديانته التي جلبها ، أو مرافق ترفيهية خاصة بثقافته… لكنه يبقى أساس تلك المدينة شاهدا على حضارة وتاريخ السكان الأوائل الذين شيدوا تلك المدن وهو ما نجده في الكثير من المدن بشمال افريقيا ومدينة دقة الأمازيغية في تونس خير مثال .
بقلم الأستاذ الباحث : مصطفى صامت
المراجع :
(01) STRABON, Géographie, XVII, 3, 2-3
(02) STRABON, Géographie, XVII, 3,3 et 3, 8
(03) مصر وليبيا في بين القرن السابع والقرن الرابع ق.م ، الدكتور أحمد عبد الحليم دراز ، صفحة 31
(04) Jodin (A.), les civilisations du sud de l’Espagne et l’Enéolithique marocain. XV e Congr. Préhist. de France,Poitiers-Angoulème, 1956, pp. 564-578
ومع الجزر الايطالية
Camps (G.), Relations protohistoriques entre la Berbérie orientale et les iles italiennes, XVI e Congr. Préhist. De France, Monaco, 1959.et . Les Traces d’un age du Bronze en Afrique du Nord, Rev. Afric. T. CIV, 1960, pp. 31-55.
(05) Stéphane Gsell ,Histoire ancienne de l’Afrique du nord, T.I, Paris, 1913,P.334
(06) Herodote ,IV.197
(07) Herodote ,II. 32
(08) راجع هذا المقال من هنا
(09) قزال، تاريخ شمال إفريقيا القديم ، ترجمة محمد التازي سعود.جزء 5 .ص11
(10) Justin , Histoire Universelle de trogue de pompée, (2 vol.) , trad, par J.Pierrot et E.Boitardéd.Panckoucke (Paris 1833), XVIII,6,
(11) Justin , XIX, 1-2
(12) قزال، تاريخ شمال إفريقيا القديم ، ترجمة محمد التازي سعود، ج 1 صفحة 308
(13) غبريال كامبس ، ماسنيسا وبدايات التاريخ ، صفحى 302 نقلا عن Müller, Frag, histor, graec, I, pp. 13-25
(14) Justin XXI, 4.7
(15) Diodore de sicile, Bibliothèque historique (7 vol.), trad, par A.F.Miot, éd .imp. royaude, (Paris 1834-38), XX,17, et 18.3.
(16) Hésianax, Frag. Hist. Graec. III, p. 70, n° 11
(17) Camps(G.),”Origines du royaume Massyle” R.CH.M, T.3, (19687), p.29
(18) Tite-Live , XLII,23
(19) قابريال كامبس ، في أصول بلاد البربر ، ماسنيسا وبدايات التاريخ ، ترجمة العربي عقون ، الصفحة 58
(20)قابريال كامبس ، ماسنيسا وبدايات التاريخ ، ترجمة العربي عقون ،صصفحة 314
(21) قابريال كامبس ، في نفس المرجع ، الصفحة 54
(22) قابريال كامبس ، في نفس المرجع، الصفحة 66-65
(23) غبريال كامس في نفس المرجع، صفحة 314
(24) قابريال كامبس ، في نفس المرجع، الصفحة 53
(25) قزال ،تاريخ شمال إفريقيا القديم، ،ج ،1 صفحة 357
(26) Camps G,Massinissa, p173
(27) قزال، نفس المرجع السابق ، صفحة 294
(28) قزال، نفس المرجع السابق ، صفحة ، 231