التاريخ القديم

ليس هناك أي أمة أو شعب أو جماعة اثنية سميت نفسها بالفينيقيين في التاريخ

    في كتاب” بحثاً عن الفينيقيين In Search of the Phoenicians” للباحثة ” جوزفين كرولي كوين Josephine Crawley Quinn” الصادر عن منشورات جامعة برينستون ـ 2017 في 364 صفحة ، أكدت الأستاذة المساعدة للتاريخ في «جامعة أكسفورد» وعالمة الآثار ونائبة رئيس بعثة التنقيب الآثارية في موقع أوتيكا بالقرب من مدينة بنزرت التونسية جوزفين كوين أنه ليس هناك أي دليل علمي وتاريخي يدل على أن الشعب الذي يسمونه بالفنيقيين قد أطلقوا على أنفسهم صفة أو اسم الفينيقيين أو عبروا عن هويتهم أنها فينيقية . وفي الآثار المكتوبة التي تركوها وعثر عليها، فإنهم يصفون أنفسهم وفق الانتماء للمدينة أو للعائلة التي ينحدرون منها فيقولون مثلا انهم صيدونيين نسبة الى مدينة صيدا أو صوريين الى مدينة صور أو جبيليين وأرواديين … نسبة الى مدينة صور وجبيل وأرواد… فالإغريق هم من أطلق على الجماعات التي تسكن في الساحل السوري القديم إسم الفينيقيين دون التمييز في أعراقهم المختلفة وقد قسمت الكاتبة مؤلفها هذا إلى ثلاثة أجزاء ، جاء الأول بعنوان ” شبح اسمه الفينيقيون”، حيث أكدت أن ما يتداوله بعض المؤرخين المعاصرين بأن الفينيقيون هم شعب من عرق واحد أو كانت لهم هوية فينيقية معبر بها يتناقض تماما مع ما تؤكده الوثائق التاريخية والحفريات التي أكدت انه لم يتم العثور على وثيقة قديمة تشير الى أن أحد أفراد المنتمين الى ما يسمي بالشعب الفينيقي قد عَرَف نفسه بالفينيقي أو تكلم عن هوية فينيقية . حيث تقول : «عُثر على أكثر من عشرة آلاف لقية أثرية تحوي نصوصاً فينيقية»، إلا أن أياً منها لا يحوي أثراً لوجود فينيقيين، أو هوية فينيقية مع أن الحضارات القديمة الأخرى في شمال شرق المتوسط، ومنها البابلية والآشورية وغيرها، تركت آثاراً عَقِدية مختلفة، تحوي نصوصاً تعكس الوعي لوجود بابليين وآشوريين وغيرهم.

غلاف كتاب” بحثاً عن الفينيقيين In Search of the Phoenicians”

    وأكدت الباحثة ان جماعات بشرية مختلفة الاعراق تقاسمت ثقافة متشابهة خاصة في عبادة اله بعل حمون أو بعل عمون وكذلك الإله ملكارت وكذلك ممارسة مهنة التجارة البحرية ،أطلق الأجانب (الاغريق) عليهم اسم الفنيقيين ، كانوا يعيشون في مدن مستقلة عن بعضها متخاصمة في اغلب الاحيان لم تشكل أي وحدة فيما بينها طوال تاريخها ، تضيف الكاتبة ان بعث تاريخ ” الفينيقيين ” في القرن الثامن عشر، من طرف بعض الدول كان لأهداف سياسية وعَقِدِيَّة له علاقة بالصراعات القومية وظهور فكرة الدولة الوطنية القائمة على فكرة القومية ، التي ظهرت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين على يد المؤرخين الفرنسيين والإنكليز والألمان الذين تحدثوا عن الشعب الفينيقي والأمة في مرحلة بناء الدولة الوطنية.

   هناك فكرة مهمة عبرت عنها الكاتبة في مؤلفها هذا كذلك في قولها أن إستعمال الاسم «الفينيقيون» من طرف جماعة ما في تاريخنا الحالي يدل على أن لهم نزوعاً للبحث عن هوية، سواء كانت تخصهم أو عائدة لغيرهم، وهو ما نراه على يد توانسة وإيرلنديين ولبنانيين، والهدف دوماً تمييز أنفسهم عن الآخر/ الغير كما تقول الباحثة . ولكم ان تقارنوا هذا الكلام مع خطاب القوميين العرب الذي ظهر فجأة في الجزائر، مباشرة بعد تنامي وتوسع الحركة الأمازيغة ؟

    توضح الكاتبة على أن أفكارها الواردة في كتابها هذا ليست بجديدة بل سبقها اليها الكثير من أهل الاختصاص أمثال هيلينا باستور وادواردو فيرير البيلدا، كلود بوران، كورين بونيه، جيسيبي غارباتي، وغيرهم . والحقيقة أن هذا الكتاب قد أجاب على الكثير من الاشكاليات التي أرهقت بعض المؤرخين المعاصرين الذين تناولوا تاريخ شمال إفريقيا خاصة في مسألة تفسير تكرار المؤرخين القدامي لمصطلح ” الليبيين الفينيقيين ” الذي لم يعد هناك مجال للشك ان القصد منه هو الليبيون الذين إعتنقوا الثقافة الفينيقية او البونيقية ، كما ان هذا المؤلف دليل آخر يضاف الى عشرات الأدلة التي تأكد أن الشعب القرطاجي ، الذي سمي بالفينيقي ما هو إلا شعب ليبي أمازيغي محلي قام ببناء أكبر دولة تحدت الأمبراطورية الرومانية في أوج قوتها . يقول المؤرخ أحمد توفيق المدني في كتابه قرطاجنة في أربعة عصور صحفة 35 : “كانت قرطاج تلم بين جدرانها 300000 من السكان.مخازنها الجسيمة غاصة بالسلع النفيسية والريش الفاخر . وفيها كل ما تقتضيه هذه العظمة من ملاعب وهياكل وقصور . وحياة علمية وادبية . وعوائد واخلاق خاصة بذلك الوسط الكبير كل ذلك رسخ في قلوب البربر واعتادوه،و اصبح سكان الحواضر لا فرق بينهم في شيئ وبين القرطاجيين الاصليين ، ولا ريب أن الثلاثمائة الف انسان التي كانت تقطن العاصمة ليست كلها ممن قدموا من فنيقيا ، بل أن كثيرا منها إن لم نقل أكثرها كان من البربر الذين استوطنوا تلك المدينة واستطابوا حياتها .وكذلك كان الأمر في بقية البلاد الأخرى “

    وهذا لان الدول العظمى تتأسس وتفرض نفسها بالقوة العسكرية وليس على أسطورة جلد الثور في هظبة بيرسا . فالفينيقيين أمة بحرية تمارس فقط التجارة ولا علاقة لها بالحروب بدليل أنهم لم يمارسوا أي حرب في بلادهم بفينيقيا (لبنان حاليا) بل كل تاريخهم الحربي كان في شمال افريقيا بقرطاج لأن أغلبية شعبها وجيشها كان أمازيغي وهذا ليس فيه خلاف بين المؤرخين، يؤكده توفيق المدني ويقول : ” ثم إن الجند القرطاجي كان مؤلفا اغلبه من البربر ولولا هذا الجند البربري لما كان لقرطاج تاريخ حربي . .” (أحمد توفيق المدني، قرطاجنة في أربعة عصور، ص36 ) ويقول أيضا : ” أما الجند البربري فهو يؤلف فرقة المشاة ، وكان هو السبب في عظمة قرطاجنة الحربية. وكان الجندي البربري صبورا شجاعا يتحمل الاتعاب بجلد كبير . وله سلاح خفيف يشتمل على قوس ونجر وترس من الجلد . وليس له خوذة ولا سيف أما في ساحة الحرب عندما يتقدم للصف الاول فيعطى سلاحا أخر .وفرقة الفرسان مؤلفة من النوميديين. وهم البربر الساكنون في بلاد الحماية. أي الشريط الممتد خلف التراب الوطني القرطاجي . ولهؤلاء الفرسان نفس السلاح لفرقة المشاة . وهم يمتطون صهوة جياد الخيل البربرية الصغيرة الحجم المتينة. ولهم اقتدار كبير على تتبع العدو وعلى الغارة واعمال الاستطلاع .( نفس المرجع السابق ، ص 41)

   بل إن فينيقيا موطن الفيينيقيين تاريخهم كله استعمار وخضوع للأجانب فقد كانت المدن الفينيقية مستعمرة من طرف المصريين وتدفع الجزية لها الى غاية القرن الثاني عشر ق.م (كان الجيش المصري حينها متكون من اغلبية ليبية أمازيغية) ثم إنتقلت فينيقيا الى الخضوع للاشوريين الذين احتلوها منذ 878 ق.م ، بقيت صور تدفع الجزية للاشاوريين حتى 663 ق.م حيث وقعت تحت الإستعمار الفارسي لها كذلك فحُولت الى جزء من الولاية الخامسة في الامبراطورية الفارسية منذ 537 ق.م الى 333ق.م وبعد ان انتصر الاسكندر الأكبر على الفرس في معركة أيسوس 333ق.م إنتقلت فينيقيا الى أيدي المقدونيين .وبقيت مستعمرة يونانية الى وصل الرومان وأخضعوها لحكمهم ثم تحولت الى مستعمرة بزنطية الى غاية وصول العرب المسلمين .

    وكانت بعض المدن مثل أوجاريت (رأس- شمره) لها لغتها الخاصة التي تختلف عن الكنعانية (J .C. Geentield , JCS 21 (1967), 89-93) ، كما أن موت اللغة الفينيقية في موطنها الاصلي في فينيقيا قبل البونيقية في شمال افريقيا واختلاف بونيقية شمال افريقيا عن الفنيقية بسوريا دليل قاطع الى تَأثُر الأقلية الفينيقية في قرطاج بالأغلبية الليبية الامازيغية وذوبانها في النواة المحلية للسكان المحليون كما يؤكده المؤرخ محمد الهادي حرش نقلا عن قزال في قوله : ” لم تكن البونيقية في الواقع غير فينيقية قرطاجة ، هذه الفينيقية قد تختلف عن فنيقية صور وصيدا سواء في النطق او المفردات والقواعد. والمعروف أن الفينيقية قريبة من العبرية ، وبفضل معرفته للعبرية تمكن الفرنسي الأب بارثولوميو من فك رموز الكتابة الفينيقية في أواخر القرن الثامن عشر، ومايزال يستعان بالعبرية الى الآن في ترجمة النصوص البونيقية، وهي على كل نصوص لا تتجاوز بضعة آلاف من النذر، وخارجها لا يمكننا ذكر غير بعض شواهد القبور وبعض شذرات الاسعار ، والنقوش على القطع النقدية . (محمد الهادي حرش ، تاريخ المغاربي القديم ، ص 90 )

    وهذا الكلام هو ما توصل إليه مؤخرا فريق من الباحثين بقيادة البروفسور اللبناني بيار زلوعة أكبر الباحثين في العلوم الوراثية في الجامعة اللبنانية الاميركية (LAU). الممول من طرف مشروع ناشيونال جيوجرافيك الجيني .عبر البحث الذي بدأ منذ 12 عامًا تركز في اربعة مواقع فينيقية موزعة بين سردينيا في ايطاليا ولبنان ، كانت النتيجة أن الحمض النووي الذي أخذ من قبور فينيقية في كل من سردينيا ولبنان تعود الى أعراق لا علاقة لهم بالكروموزم الفينيقي بل لأوروبيين وللسكان الاصليين لتلك المستعمرات الفينيقية وهو ما دفع بيار زلوعة المندهش من النتائج حسب تعبيره , الى التأكيد أن المجتمع الفينيقي كان شاملا ومتعدد الثقافات والأجناس وأن الاختلاط هو سر نجاح وإزهار الحضارة الفينيقية .

   صفوت القول هي أنه ليس هناك أمة فنينيقية في التاريخ حسب المفهوم القومي المعاصر بل مجرد تسمية إغريقية أطلقت على جماعات بشرية مختلفة الأصول والأعراق سكنت الساحل السوري القديم جمعتها الديانه المشتركة ، استطاعوا نسج علاقات تجارية مع مناطق مختلفة في الحوض المتوسطي ، بلغت حد تأسيس دويلات منعزلة على السواحل مع السكان المحليين الذي تحول ولائهم فيما بعد الى تلك المدن التي وفرت لهم الامن والمسكن والعمل والحاجات الاقتصادية …

بقلم الأستاذ : مصطفى صامت 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!