الحقيقة التاريخية لنقيشة (ARABI) الموجودة في الآثار الرومانية في تبسة شرق الجزائر

ماذا يعني وجود نقيشة تحمل عبارة "عربي" في الجزائر قبل دخول العرب؟

   تداولت بعض المدونات وصفحات التواصل الإجتماعي في الجزائر صورة لآثار رومانية من ولاية تبسة ،جاء فيها نقش باللغة اللاتينة كتب عليه “ARABI” ، وقد قدمت الصورة من طرف بعض الصفحات على أنها دليل على “تواجد عروبي في شمال افريقيا قبل الإسلام” فما هي حقيقة هذه النقيشة وما علاقة مصطلح أرابي ARABI بالآثار الرومانية في الجزائر وهل لها علاقة بما يروج له كتواجد ثقافي عروبي في شمال افريقيا قبل الإسلام ؟

جاء نص النقيشة اللاّتينية”ARABI* ” على صيغة نص النقيشة الإيبيغرافيا حيث لا تحتوي إلاّ على كلمة واحدة هي: (ARABI) ومن المستبعد تصنيفها بالجنائزي ولا النذري كما هو سائد في أغلب النقوش الأثرية ، نظرا لخلوه من الرموز الدينية وكذلك العبارات الجنائزية و النذرية، وإضافة الى وروده بإسم أحادي يتضح من كل هذا أنه مصطلح إيثنو-جغرافي كان يقصد به المقاطعة الرومانية “أرابيا (Provincia Arabia) التيى كان اللاتين يقصدون بها مدينة الأنباط بين شمال شبه جزيرة العرب وجنوب سوريا، و التي كانت عاصمتها مدينة البتراء (Arabia petraea) في الأردن. فما علاقة هذا بتبسة الجزائرية ؟

لقد سجل لنا المؤرخون أن الإمبراطورية الرومانية التي كانت سيدة العالم القديم كثيرا ما إستعانت بكتائب عسكرية من مختلف المناطق التي أخضعتها الى سلطتها العسكرية ، وكثيرا ما كانت تنقل تلك الفرق العسكرية الأجنبية الى مقاطعات أخرى لتقاتل بها هناك عوض استعمالها في أوطانها لتفادي استمالة عواطف هؤلاء المرتزقة و حدوث التمردات في صفوفهم.

وقد كانت الجزيرة العربية ضمن خريطة التوسع الروماني كذلك، حيث تشير المصادر إلى إخضاع الإمبراطورية الرومانية لبلاد الأنباط وفرض الاتاوات السنوية عليها وكذلك إتفاق يقضي على أن تمنح للرومان فيلق عسكري يساعد روما في حروبها في بقية مستعمراتها . وهذا منذ زمن ملك الانباط الحارث الثالث حوالي 62 الى 87 ق.م (1) وبالفعل استعانت روما بعدد معتبر من المجندين والفرق المساعدة من الأنباط كانت منتشرة كحاميات مرابطة بالعديد من المواقع والمقاطعات الرومانية بما فيها المقاطعة الأفريقية.

حيث أزداد عدد المرتزقة الحجازيون والشاميون في الجيش الروماني بعد سيطرة القائد الروماني بومبي على كل المدن السورية ثم مواصلة زحفه الى المناطق الجنوبية في البتراء وما حولها ، حيث منح الإستقلال الذاتي لمملكة الأنباط مقابل مساهمتها في مد الإمبراطورية الرومانية بالمقاتلين وكذلك دفع الضرائب . وقد ضربت صورة ملك الانباط الحارث الثالث في عهد القائد الروماني (سكورس) في عملة رومانية وهو منكس الرأس وحاملا في يده سعفة تعبيرا عن استسلامه للرومان (2)
حافظ الملك عبادة الثاني 60 -62 ق.م (إبن الملك الحارث الثالث ) تقليد والديه في سياسة الخضوع للرومان وشاركت الأنباط بجيشها مع القائد الروماني يوليوس قيصر في حربه على الاسكندرية وساهموا في نجاح استلاء الرومان على مصر في عهد اوكتافيوس بحكم معرفتهم ومجاورتهم لها (3)
واصل الانباط تحالفهم وتعاونهم مع الرومان في عيد ملكهم (عبادة الثالث) 28 – 29 ق.م والذي تولى الحكم بعد الملك (مالك الاول) الذي كان قد تعاون مع الرومان تعاونا كبيرا عملا كذلك باتفاقية الخضوع المبرمة في عهد بومبي وعليها شاركت الأنباط بألف مقاتل في حملة الرومان لإخضاع اليمن (4)

لقد تركت لنا حتويات النصب الجنائزية في النقائش اللاتينية بشمال افريقيا خاصة مقاطعة نوميديا و مقاطعة موريطانيا القيصرية خلال الحقبة الرومانية أدلة كثيرة على تواجد مرتزقة وفرق عسكرية مشرقية تابعة للجيش الروماني كانت مرابطة في الحاميات وبعض المدن ومن بينها على سبيل الميثال لا الحصر :

-فرقة (نوميروس سيروروم Numerus syrorum)، التي يذكر أنها قدمت من مقاطعة داسيا Dacie (رومانيا حاليا) التي تواجدت بها فرقة سورية لرماة الرماح المعروفة باسم (Numerus Syrorum Sagitariorum)، التي قادها (إيوليوس إيولتانوس : S.Iulius Iuliants) الى موريطانيا القيصرية (تيبازة حاليا) (5)

فيلق مشاة السوريين المسلحين بالسهام ( Cohors Syrorum Sagitarian)، حيث تم العثور على نصب جنائزي لهذا
الفيلق بعاصمة مقاطعة موريطانيا القيصرية (Caesarea) يعود إلى القرن الأول وبداية الثاني الميلادي ، جاء في النقيشة اسم أحد المجندين تعود أصوله الى سورية يدعی ایولیس دابنوس C.Iulius Dapnus) مع زوجته ذات الأصول الأمازيغية والتي تسمى (سجيتاريا فارتیريغ Sagittaria vartinigig). (6)

ولم تختصر على الفرق الأجنبية الجيش الروماني الذي إحتل شمال افريقيا على العنصر المشرقي الشامي والحجازي فقط بل حتى على العنصر الأوربي حيث نجد نقائش لاتينية تخلد أسماء بعض هذه الفرق مثل : الكتائب المختلطة للمشاة و الخيالة البريطانية Cohors II brittonum Equitata وكذلك الفرق الاسبانية Hispaniarum YI UWI I I وغيرها .

خلاصة : يتضح لنا مما سبق أن نقيشة (ARABI) بولاية تبسة لها مدلول إيثنو-جغرافي مرتبط بالمقاطعة الرومانية “أرابيا (Provincia Arabia) في الأردن و هو ما يفضي الى التسليم بعلاقتها بالفرق المساعدة للجيش الروماني والمنحدرة من هذه المقاطعة الرومانية Arabia petraea كما يترجمه وجود الكثيرة من النقائش المماثلة للفرق العسكرية الأجنبية المختلفة مثل وحدة Numerus syrorum التي إحتفظت على خصوصيتها (المحلية) كما يظهر في اسمها (syrorum) نسبة لمقاطة سوريا بالشام .
كتبه الأستاذ: مصطفى صامت لموقع Tafat.net
الصفحة الرسمية للكاتب
الهوامش :
* تم تسجيل النقيشتين (ARABI) في الموقع الأثري بولاية تبسة في “مدوّنة الكتابات اللاتينية بالجزائر” وكذلك “السنة الإيبيغرافية” تحت الرقمين: (CIL 08, 1880 et 1881 = ILAlg-01, 03077 et 3078= AE 2012, 1816 )
1– (Altheim . f . and stiehl . Redier araberinder alten welt , (berlin , 1967 .p . 303
2 – مهران ، محمد بيومي ، دراسات في تاريخ العرب القديم ، دار المعرفة الجامعية ، (الاسكندرية ، د.ت) ، ص512
3 – الناصري ، الرومان والبحر الأحمر ، ص 20 .
4 – الشتلة ، إبراهيم يوسف أحمد ، حملات الرومان عمى الجزيرة العربية ، مجمة الدارة ، ع 3 ، (الرياض ، م 1984 ) ، ص 102 ؛ حوارني ، جورج فضلو ، العرب والملاحة في المحيط اليندي في العصور القديمة واوائل العصور الوسطى ، مكتبة الانجلو مصرية ، (القاىرة ، 1958 م)، ص105
5– M.SpeidelAfrica and Rome : continuous resistances proceedings of the Africain classical
association XIII. 1975.p174
6– Benseddik. N . Les Troupes Auxiliaires de L’Armée Romaine en Mauretanie Cesarienne sous le
Haut empires societe national d’edition et de diffusion.Alger: 1979.p128
Exit mobile version