القديس أغسطينوس (سانت أوغسطين) ولغة أهل أرياف بونة: البونيقية أم الليبية ؟
القديس أغسطينوس (354-430م)، رجل دين، له مركزه، وهو محل تبجيل وتقدير في كل العالم المسيحي، وفي عالم الفكر، وبالتالي، لاشك أن لأقواله وزن وقيمة وتأثير، وإحساسًا منا بهذا الوزن والتأثير، رأينا أن نناقش فكرة متداولة عند الباحثين حول إستمرار “اللغة البونيقية” في التداول في أرياف عنابة وبين فلاحيها حتى عهد القديس أغسطينوس على الأقل وكذا الأصل الكنعاني لهؤلاء الفلاحين وهذا بناء على قوله: “أسأل فلاحينا من يكونون يجيبونك بالبونيقية أنهم كنعانيون”.
هذه الجملة على إيجازها، كان لها تأثير واضح وواسع على كبار المؤرخين الفرنسيين، الذين لم يطرحوا “الاشكال الحقيقي” وراحوا يناقشون الجزئيات، التي تشبع غرائزهم، وتلبي ميولهم من حيث عجز الأفارقة، وحاجتهم للعيش في ظل الأجنبي، وإلا كيف نفسر الإجماع بين هؤلاء على إستمرار “لغة أهل قرطاجة” في التدوال بين السكان الأهالي في رأي البعض حتى الفتح الإسلامي( )، وأنه بناء على فرضية قدمها سابقًا إرنست رينان (E. Renan)، يكون البربر قد تبنوا لغة القرآن بسهولة، نتيجة معرفتهم اللغة البونيقية( ).
إذا كان هذا موقف رواد المدرسة الاستعمارية الفرنسية أمثال قزال وإيميل فيليكس قوتي وتوتان، فإن وليام مارسي( )، إذا كان يرفض فكرة: “أن لغة القرآن حلت محل البونيقية”، فإنه يتفق مع قزال وقوتي، على أن إستعمال اللغة البونيقية، استمر حتى القرن الخامس بعد الميلاد في مناطق مختلفة من البلاد المغاربية الشرقية، طبعًا المقصود هنا أحواز عنابة إعتمادًا على رأي القديس أغسطينوس، وقد أعتبروا كل نقاش في المسألة، يعد سخيفًا ومنافيًا للعقل بالنظر إلى ترسانة النصوص “الأغسطينية”، التي في متناولنا، وقد درس إيميل فيليكس قوتِّي أهمها وفق هؤلاء ببراعته التي لا تضاهى، وحماسة الحديث التنصر( ).
إلى جانب النص المشار إليه أعلاه، نجد في مقالات ورسائل ومواعظ القديس أغسطينوس، إشارات إلى اللغة البونيقية، وإلى ملتقى حيث يجب حضور مترجم إلى اللغة البونيقية، كما يتم الحديث في أسقفية هيبون بالبونيقية. هذه الإشارات كلها في نظر هؤلاء الباحثين كافية للاستدلال، أن بونة (عنابة) وأحوازها كانت اللغة البونيقية هي السائدة بها على أيام القديس أغسطينوس، وبالتالي أعتبروا من العبث البحث في غير ذلك.
لم يتساءل واحدًا من هؤلاء الباحثين مثلما فعل المؤرخ الإنجليزي فراند في مقال له نشر سنة 1942 في يومية الدراسات اللاهوتية، حيث تساءل إن لم يكن القديس أغسطينوس قد وصف بالبونيقية لغة محلية مثلما يفعل بعض الفرنسيين الذين يصفون بـ “العربي، كل ما يبدو لهم مغاربي أصيل”( ).
رغم ان هذه الإشارة لم تحظ بالإهتمام في وقت كانت فيه إنشغالات أخرى تسيطر على عقول الناس، فضلاً عن أن الوثائق التي قدمها فراند كانت مختصرة، وأدلته كانت واهية نسبيًا، لكنها كانت كافية للفت الانتباه.
وقد عاد كريستيان كورتوا بعدما يقارب عقدٍ من الزمن، ليتبع نهج فراند، ويصل بدوره إلى نتائج مماثلة لما كان يصبو إليه فراند من دراسة النصوص الأغسطينية التي أقاموا بها الحجة على إستمرار البونيقية في التداول حتى القرن الخامس الميلادي.
إذا كان “كورتوا” وقبله فراند قد أقترحا إعطاء مدلول أوسع لمصطلح “بوني” (Poeni) أو “بونيقي”(Punicus)، الذي لم يعد في القرن الأول الميلادي، في رأيهما يطلق على القرطاجيين فحسب، وإنما على كل الأفارقة، وأن صفة البونيقي (Punicus)أصبحت مرادفة لأفر(Afer)، متبعة هكذا تطورًا موازيًا لمصطلح ليبي(Libycus)، وقد لاحظ قزال أن مصطلح أفري، يمكن أن يشير للقرطاجيين، لكن ينطبق أيضا على الأهالي( ).
لقد أورد كورتوا العديد من النصوص التي لا يمكن لمصطلح، بونيقي، أن يستوي إن فسر في معناه الضيق، لأن ذلك يحدث إضطرابًا في المعنى( ) وسنكتفي نحن في هذا الصدد بالإشارة إلى ثلاثة مواضع تشير النصوص إلى إستخدامها اللغة البونيقية، وهي مواضع لم تكن بها اللغة البونيقية في فترة من الفترات لغة كتابة ولا مشافهة.
1) نص لأرنوبيوس الصغير(Arnobe le jeune)، وهو راهب إفريقي، لجأ إلى روما على إثر الغزو الوندالي، ولتحديد المنطقة التي يشغلها الحاميون من الحدود المصرية- الفلسطينية حتى قادس بإسبانيا يقول: “يتكلمون البونيقية في منطقة الجرامانت، اللاتينية في المنطقة الشمالية، لغة باربارية إلى الجنوب من بلاد الإثيوبيين والمصريين، ولغات متنوعة بالنسبة للبربار الذين يعيشون داخل القارة” « habens linguas sermone punico a parte Garamantum latino a parte Borae, barbarico à parte meridiani Aethiopum et Aegyptiorum, ac barbari interioribus vario sermone »
2) نص بروكوبيوس الذي يتحدث عن السكان المور (الموريطانيون) وكيفية إقامتهم بليبيا بعد فرارهم من يوشع إبن نون حيث يقول: “…. توجهوا نحو ليبيا()، واستولوا على هذه البلاد حتى أعمدة هرقل، وأسسوا العديد من المدن، التي مازال سكانها يتكلمون دائمًا اللغة الفينيقية حتى اليوم، أسسوا أيضًا حصنًا في نوميديا، حيث توجد الآن المدينة المسماة تجيسيس(Tigisis)، ففي هذه المدينة، نرى قرب العين الكبرى نصبين من الحجر الأبيض، منقوش عليهما، بالحروف الفينيقية، والتي تعني ترجمتها من هذه اللغة ما يلي: ” نحن القوم الذين فروا بعيدًا من مواجهة الشرير إبن نون” …. لاحقًا الذين هاجروا من فينيقيا مع ديدون(Didon) ، جاءوا لملاقاة سكان ليبيا، الذين يعتبرونهم أقرباء لهم، وبموافقتهم، أسسوا قرطاجة، وأقاموا فيها “تنامت قوة قرطاجة مع الوقت، وأصبحت كثيرة السكان، فحاربت جيرانها الذين وصلوا الأوائل من فلسطين- كما قلنا- والذين يسمونهم الآن بالمور، وهزموهم في معارك عديدة وأجبروهم على العيش بعيدًا عن قرطاجة”.
3) نص القديس أغسطينوس الذي يقول فيه: “أسأل فلاحينا من يكونون، يجيبونك بالبونيقية أنهم كنعانيون”.
تؤكد النصوص الثلاثة على مسألتين هامتين:
الأولى هي ليس إستمرار “اللغة البونيقية” في التداول كتابة ونطقًا حتى القرن السادس الميلادي فحسب، وإنما إنتشارها في المناطق الشرقية من البلاد المغاربية على نطاق واسع من فزان إلى أرياف عنابة وحتى الجنوب الشرقي من قسنطينة.
أما المسألة الثانية، فهي “الأصل الكنعاني” لسكان هذه المناطق والبلاد المغاربية.
الجامع المشترك عند الكتاب الثلاثة، أن المناطق التي ذكروها كحاضنات “اللغة البونيقية”، لم تكن في يوم من الأيام ناطقة بها، فضلاً عن ذلك، فإذا لم تكن تلك المناطق ناطقة بالبونيقية أيام عز قرطاجة، وأيام الانتشار المفترض لهذه اللغة في المدن الساحلية، نتساءل كيف تواجدت في هذه المناطق في القرن الخامس أو السادس الميلادي لتختفي مباشرة بعد ذلك، لتحل محلها الليبية (الأمازيغية)، التي كانت سائدة فيها قبل ذلك؟
لا نتصور أن لغة أهل جرمة (الجرامانت) في فزان بليبيا الحالية، كانت في يوم من الأيام هي البونيقية، والتي مازال الكثير من أهاليها إلى اليوم لا ينطقون بغير الليبية (الأمازيغية)، فكيف تكون لغة أهل فزان هي “البونيقية” في القرن الخامس أو السادس، في وقت عرفت لغة أهل “لبدة” على عهد سالوستيوس (86-35 ق.م) تغييرًا بعد تحول المدينة إلى أيدي الملوك النوميديين بسبب الاختلاط مع النوميديين ” لغة سكان لبدة وحدها تغيّرت بفعل الاختلاط مع النوميديين”( )، فلا يعقل أن تفقد “لبدة” المؤسسة الفينيقية بامتياز لغتها في القرن الثاني قبل الميلاد لصالح الليبية (الأمازيغية) في وقت تُحْفَظُ في فزان أو أيّ منطقة أخرى لم تصلها هذه اللغة، ولم تكن ناطقة بها من قبل!
أما المنطقة التي يتحدث عنها القديس أغسطينوس، وهي الأرياف الواقعة في أحواز عنابة التي كانت تمتد من قالمة، سوق أهراس وتبسة جنوبًا والقالة شرقًا، وهي المنطقة التي عثر فيها على أكبر عدد من النقوش الليبية في كل المنطقة المغاربية، فضلاً عن كونها المنطقة التي مازالت فيها الليبية (الأمازيغية في لهجتها الشاوية) حية حتى يومنا، وهو دليل على إستخدام الليبية كتابة ونطقًا، مما يدل على أن المنطقة ذات عمق ليبي قديمًا وحديثًا، فكيف تكون أرباضها في القرن الخامس أو السادس الميلادي ناطقة بالبونيقية، في وقت لم تعرف هذه الأرياف البونيقية قبل هذين القرنين ولا بعدهما، حيث نجد الليبية هي السائدة؟ وهو شأن مدينة عين البرج (تجيسيس Tigisis) التي يمكننا إعتبارها الحدود الشمالية لامتداد اللسان الشاوي حتى الوقت الحاضر، مما يعني أيضًا أنها كانت ذات عمق ليبي قديمًا، الأمر الذي يوحي أن مصطلح بونيقي قد أستخدم من طرف هؤلاء الكتاب في إطاره الأوسع للدلالة على الليبيين واللغة الليبية، لأنه لا يعقل أن تندثر وتختفي “اللغة البونيقية” من المدن الساحلية المفترض أنها كانت على صلة بها، وتستمر في الأرياف والمناطق الداخلية، التي لم يسبق لها التواجد بها في يوم من الأيام، الأمر الذي يجعلنا نقول أن كل البقايا والآثار تبيّن تجذر الليبية في المناطق التي تشير إليها النصوص السالفة سواء في فزان (الجرامانت) أو في أرياف نوميديا (عنابة – عين البرج)، مما يدعونا إلى الاعتقاد أن تلك النصوص، كانت تطلق مصطلح “بونيقي” على كل ما هو غير روماني، وبالتالي نقول أن مصطلح بونيقي في هذه الحالة مرادف لمصطلح ليبي.
المسألة الثانية “الأصل الكنعاني” كل النقاش يدور حول فقرة شهيرة لبروكوبيوس يذكر فيها أن “المور” ينحدرون من الفينيقيين الذين طردوا من وطنهم من طرف يوشع.
هذه الأسطورة، التي تمّ الاحتفاظ بها في الرواية الإغريقية، انتقلت إلى المؤرخين المسلمين الذين وجدت عندهم صدى واسعًا، لاشك أنها ظهرت في الأوساط اليهودية في القرن الأول أو الثاني الميلادي( )، وشاعت في وقت لاحق، وأخذ بها الكثير ممن كتبوا عن أصول سكان المنطقة المغاربية، من بين هؤلاء المؤرخ الألماني موفر، الذي أعتقد أن الاستيلاء على فلسطين من طرف العبرانيين، أدّى إلى مغادرة عدد كبير من الفلاحين الكنعانيين، في سلسلة من الهجرات المتتالية من وصول يوشع حتى عصري داود وسليمان( ).
أما بودنجر الذي يضع دخول يوشع فلسطين في أواخر القرن الثاني عشر، فيعتقد أن ذلك كان السبب الحقيقي لتأسيس الفينيقيين في الغرب العديد من المستوطنات الهامة، التي تؤرخ بالفترة نفسها( ).
وهكذا نلاحظ أن بودنجر يعود بنا إلى أواخر القرن الثاني عشر قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وهي الفترة، التي بدأ فيها الفينيقيون يرتادون ويستكشفون السواحل الغربية للبحر المتوسط على إثر غزوة شعوب البحر( )، ولم تكن هناك هجرات ضخمة، بل عرفت هذه المرحلة بمرحلة الارتياد والاسكتشاف، كانت تُتْبَعُ بالعودة إلى الوطن الأم( ).
أما ما أشار إليه بروكوبيوس من تأسيس قرطاجة بعد ذلك (أواخر القرن التاسع)، ففي هذه المرحلة يبدأ إستقرار هؤلاء في الإسكالات (المحطات) الساحلية، التي بدأت تتحول إلى مستوطنات، يتخذها هؤلاء المهاجرون وطنًا ثانيًا لهم، طبعًا مهما كان عدد هؤلاء المهاجرين الذين توزعوا على جزر وضفتي غرب المتوسط كبيرًا لن يكون أكثر من قطرة في هذا البحر البشرى الممتد من مالطة وصقلية وسيردينا وجزر البليار وإسبانيا وسواحل بلدان المغرب من ليبيا، تونس، الجزائر إلى المغرب الأقصى.
كانت فترة القرن الثاني عشر مسبوقة بغزوة شعوب البحر التي أجتاحت منطقة الشام( ) ودمرت عددًا من مدنه وعندما حاولت الدخول إلى مصر تصدى لها رمسيس الثالث(1198-1166 ق.م) عند الحدود المصرية سنة 1195 ق.م، فأستوطن بذلك فرع من هذه الشعوب المنطقة الساحلية الممتدة بين غزة جنوبًا وجبل الكرمل شمالاً، والتي عرفت فيما بعد بـ “فلسطين” نسبة إلى قبائل الفلسطو التي أستوطنتها.
كان على كنعاني هذه المناطق الانسحاب تحت ضربات هؤلاء القادمين الجدد، الذين حاولوا توسيع مجالهم الحيوي، لكنهم إصطدموا بمنافسين آخرين مثل بني إسرائيل، الذين كانت قبائلهم، تتطلع إلى أخذ مكانها في الساحل الفينيقي منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ووصلت جنوب فلسطين.
هكذا نلاحظ أن الصراع والتنافس على فلسطين ليس وليد القرن العشرين، ولذلك عمل العبرانيون عند تدوين “التوراة” على إبعاد العموريين والكنعانيين عن الساميين ونسبوهم إلى الحاميين (الاصحاح العاشر) في إطار التنافس على الأرض، التي أدعو أن “الرب وعدهم بها”.
وقد أنتشرت هذه الفكرة في أوروبا مع إنتشار المسيحية التي أعتبرت ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية بداية من القرن الرابع ميلادي.
فبدأ علماء اللاهوت، يعودون إلى نصوص “التوراة” للإطلاع على أصول التوحيد فيها وعلى نصوص “الوصايا الموسوية العشر”، لصلتها الوثيقة بالعقيدة المسيحية، ثم البحث عن تاريخ بني إسرائيل الذي أرتبط به نشوء المسيحية نفسها، وهكذا أطلعوا على رواية التوراة في الاصحاح العاشر من سفر التكوين التي تنسب البشرية إلى أبناء نوح، الثلاث (سام، حام، يافت) وأخذ بها الكثير من علماء اللاهوت والكتاب منهم القديس أغسطينوس وبروكوبيوس، هذا الأخير الذي كان له تأثير واضح على المؤرخين المسلمين الذين قالوا أن أصل “البربر” من الشام، وأنهم طردوا من فلسطين أيام داود الذي قتل ملكهم جالوت.
وإذا كان ابن خلدون قد كذب هذه الآراء، وفند أن يكون البربر أبناء إبراهيم في قوله: “وأعلم أن هذه المذاهب كلها مرجوحة وبعيدة من الصواب، فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد، لأن داود الذي قتل جالوت وكان البربر معاصرين له ليس بينه وبين إسحاق بن إبراهيم أخي نقشان الذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة أباء ذكرناهم أول الكتاب ويبعد أن يتشعب النسل فيهم مثل هذا التشعب، وأما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام وأنتقلوا فقول ساقط يكاد يكون من أحاديث خرافة، إذ مثل هذه الأمة المشتملة على أمم وعوا لم ملأت جانب الأرض لا تكون متنقلة من جانب آخر وقطر محصور، والبربر معروفون في بلادهم وأقاليمهم متحيّزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام. فما الذي يحوجنا إلى التعلق بهذه الترهات في شأن أوليتهم”( ).
مع كل هذا، ورغم أن بن خلدون قال في أول كلامه عن البربر أنهم جيل من الأدميين سكنوا المغرب منذ القدم شأنه في ذلك شأن بروكوبيوس، لكنه لم يتمكن بدوره مثل هذا الأخير التخلص من النظرة الدينية والانسياق وراء “التوراة” في الاصحاح العاشر الذي يسجل سلاسل أنساب تنحدر من أبناء نوح كما قلنا سلفًا إذا قال بن خلدون: “والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح، كما تقدم في أنساب الخليقة، وأن إسم أبيهم مازيغ وأخوتهم أركيش وفلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام، وملكهم جالوت سمة معروفة له. وكانت بين فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة”( ).
ويمكننا أن نقدم هنا مجموعة من الملاحظات حول رأي بن خلدون:
1) إعتبار البربر أبناء كنعان بن نوح معناه أن الكنعانيين حاميون، وهو مخالف للحقيقة التاريخية.
2) تحشر التوراة ضمن الساميين العيلاميين واللاويين ونحن نعلم أن العيلاميين ليسوا من الساميين وأقصوا الكنعانيين نتيجة التزاحم والصراع على فلسطين الذي يعود إلى القرن الثالث عشر قبل ميلاد المسيح عليه السلام.
3) يقر بن خلدون أن البربر أقارب الفلسطينيين، وإن كانوا ليسوا منهم، وهذا خطأ، لأن قبائل الفلسطو فرع من شعوب البحر، وهي مقدونية الأصل، أستقرت في المنطقة الممتدة من غزة جنوبًا وجبال الكرمل شمالاً التي سميت فلسطين نسبة إلى هذه القبائل.
4) بعد أن يعتبر بن خلدون القول بأن البربر من ولد جالوت أو العماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام وأنتقلوا فقول ساقط ، يكاد يكون من أحاديث خرافة (ص.190)، يعود في الصفحة 191 ويقول: “إن ملكهم جالوت سمة معروفة”، علمًا أيضًا أن جالوت هذا حسب الأسطورة، هو محارب فلسطيني هزمه داود في معركة فردية، مما يعني أبعد ما يكون عن البربر.
5) يمكن أن نفسر “الأسطورة”، التي تجعل من البربر منحدرين من الكنعانيين الذين طردهم اليهود من فلسطين بعاملين:
أ- الذكرى البعيدة التي يكون الأفارقة، قد أحتفظوا بها لنزول الفينيقيين على السواحل المغاربية منذ أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
ب- الصلة القوية بين الدراسات اليهودية والمسيحية التي يسرت لعلماء اللاهوت المسيحيين الإطلاع على التوراة التي عودّتهم على القصة التي تدعم وتعزز “أسطورة” الأصول الكنعانية، وهو ما نجده عند القديس أغسطينوس وبروكوبيوس.
هكذا نلاحظ أن الكثير من الكتابات الموجهة والمفعمة بالايديولوجية، قد يكون لها تأثير بالغ وواضح حتى على كبار المفكرين، وهو ما حدث للقديس أغسطينوس الذي أخذ بمفهوم نظرية الأصول والأنساب التوراتية، الموجّهة أساسا لخدمة المرامي اليهودية في فلسطين.
وقد أثرت أصول هذه النظرية التوراتية في كتابات المؤرخين المسلمين الأوائل الذين قالوا بالأصول الكنعانية لسكان بلاد المغرب انطلاقا من هذه النظرية، وانطلقنا نحن في العصر الحاضر من هذه النظرية التي خيمت على العقول لدراسة تاريخنا، ولم نتجرأ بعد على نقضها، إما عجزا منا، وافتقادنا إلى المنهج النقدي في دراسة الأحداث والروايات التاريخية، وإما لأننا نجد فيها ما يشفي غليلنا، ويشبع فضولنا، ويغنينا بالتالي عن مشاق ومضان البحث، وبقينا ننساق وراء أراء ونظريات أبعد ما تكون عن الحقيقة والعلم.
بقلم: أ. د. محمد الهادي حارش
أستاذ التاريخ والحضارات القديمة
بجامعة الجزائر 2.
القديس أغسطينيوس ولغة أهل أرياف بونة:
البونيقية أم الليبية؟
الملخص:
جرى نقاش في القرن الماضي حول إستمرار “اللغة البونيقية” في التداول بين أهالي شمال إفريقيا من عدمه، ونلاحظ شبه إجماع على إستمرار لغة أهل قرطاجة في التداول بعد سقوط المدينة، لكن هذا الإجماع ينتهي عندما يتعلق الأمر بالإجابة على سؤال إلى أيّ فترة أستمر هذا التداول؟ البعض قالوا حتى الفتح الإسلامي، وأفترضوا أن البربر، قد تبنوا لغة القرآن بسهولة، بسبب معرفتهم البونيقية، بينما يرفض آخرون الإقرار أن العربية حلّت محل البونيقية، لكن كل هؤلاء يتفقون على إستمرار تدوال البونيقية في المناطق الشرقية من البلاد المغاربية حتى القرن الخامس الميلادي، وقد يكون هذا إعتمادًا على نص للقديس أغسطينوس يقول فيه: “أسأل فلاحينا من يكونون، يجيبونك بالبونيقية أنهم كنعانيون”.
الأمر الذي يجعلنا نتساءل بدورنا، كيف تندثر هذه اللغة، وتختفي تمامًا من المدن الساحلية المفترض أنها كانت متداولة بها، وتستمر في الأرياف التي لم يسبق لها التواجد بها؟
Résumé
Un débat s’est déroulé le siècle dernier concernant la survivance de la langue de Carthage après la destruction de la ville au sein de la population nord-africaine.
Mais, si l’on s’accorde à reconnaitre que la langue de Carthage a survécu à la cité, l’unanimité cesse quand il s’agit de fixer le terme de cette survivance. Les uns pensent qu’elle s’est prolongée jusqu’à la conquête musulmane et parce qu’ils connaissaient le punique les berbères ont adopté si facilement la langue du Coran. Les autres refusent à admettre que l’arabe ait pu substituer au punique.
Mais tous se trouve d’accord qu’au cinquième siècle le l’ère chrétienne, l’usage du punique persistait encore dans diverses régions de l’est du Maghreb.
Sans doute en se basant sur le texte de Saint Augustin : “interrogati rustici nostri sint, punice respondentes chanani” (Demandez à nos paysans qui sont-ils ?, ils vous répondront en punique, des Cananéens).
Ce qui nous pousse, à notre tour, de se demander, comment cette langue a pu complètement disparaitre des villes côtières où elle était utilisée et de survivre dans des zones rurales où elle n’a jamais existé ?