أقلام حرة

تمازيغت في الجزائر بين الظروف السوسيولغوية والتحديات العلمية والعملية

إن الأمازيغية في الجزائر تعيش ظروفا سوسيولغوية  يرثى لها،  لذا وجب علينا إعطاء الكلمات المتداولة معناها الحقيقي، فلنبدأ من مصطلح “Tamaziɣt”.

أولاً، لا يجب إساءة فهمها وأخذها بالمعنى المعياري (standard) أو القياسي الموحد (norme commune)  لكل  اللهجات و  اللهجات المحلية الأمازيغية في الجزائر. فحالياً لا وجود للغة أمازيغية معيارية. هذا المصطلح “Tamaziɣt” (ومشتقاته: الأمازيغي، الأمازيغ) مرادفه الصحيح اللفظ  الفرنسي Berbère، وهو لفظ نوعي شامل لكل متغيراتها في الجزائر. ليس من الخطأ إذا القول “أمازيغية القبائل، الأوراس، بني ميزاب … إلخ”. الملاحظ هو الاستعمال المتزايد شيئا فشيئا للمصطلح المحلي “Tamaziɣt” بدلا للأجنبي “Berbère” في المنتوج الأدبي والعلمي الأمازيغي وكذلك في الخطاب السياسي وهذا على الأقل فيما يخص الجزائر. هذا بالنسبة للمعنى الاصطلاحي.

إن هذه اللغة حقيقية، حية ومعاشة بكل استعمالاتها المتغيرة عبر هذه الجغرافيا السحيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما لم يكتشف منها يعد. من وجهة نظر سوسيولغوية فإنها عرفت وضعيتين: – من 1962 إلى 1990 أين كانت وبكل بساطة  مرفوظة وممنوعة، – من 1990 إلى يومنا هذا أين أصبحت حقيقة قبولها  أكثر من الاعتراف بها.

خلال المرحلة الثانية عرف ولا يزال كذلك تطورها ظروفا سياسية و سوسيولغوية مأساوية، فمجال حياتها ملغم من كل صوب وحدب من طرف مغامرين سياسيين و”علميين” . وكذلك سياسيا وإيديولوجيا، فالتلاعب هو السمة الأساسية من جانب السلطة القائمة، من المعارضة السياسية و “المجتمع المدني” بشكل عام.

للاستجابة لخطب تلك المعارضة التي تتخذ من الأمازيغية ساحة معركة خاصة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية وسجلاًّ تجاريا تتّكئ عليه، فإن السلطة ترد بخطاب التظليل و المناورة.

 وفي الآونة الأخيرة، واستجابةً للمطلب المستمر والدوري من منطقة القبائل نسمع من كبار المسؤولين في السلطة تلك العبارة الرنانة “نحن جميعاً من أصل أمازيغي … ولكن الإسلام عرَّبنا”، يا له من بهتان !

بهتان بيّن وذلك  للأسباب التالية:

أولاً: الإسلام لا يعرِّب أينما حلّ على الأقل ثقافياً و هوياتياً، يكفي النظر إلى مئات الملايين من المسلمين العجم في كل أنحاء المعمورة لتتجلى لنا الحقيقة بكل وضوح، فالمسلمين من غير العرب أكثر من العرب المسلمين !

ثانياً: في بلدان شمال أفريقيا نفسها الإسلام لم “يعرِّب” كل سكانها والدليل تلك الملايين من أمازيغي اللسان المسلمين إلى اليوم !

ثالثاً: كيف لهم أن يعرفوا أن المتحدّثين بالأمازيغية هم “أقليّة” وأن “أمازيغيّ الأصل …الذين عرَّبهم الإسلام” هم “الأغلبية” ؟ في غياب المسوحات اللغوية والإحصاءات السكانية الجادّة، كيف لهم أن يعرفوا من هو من في هذا الوطن ؟ هل سبق وأن أجريَ أيّ  تعداد أو مسح لغوي في الجزائر بعد عام 1962 ليس لنا به علم ؟

رابعاً: من الضروري التمييز بين العرب و المعرّبين لغوياً، ولنتفادى الخلط بين لغة و هوية الشّعب. أتساءل: ألا يجب أن نفتح نقاشاً نزيهاً وهادئا حول هذه النقطة بالذّات ؟ أنا أظن ذلك، ولنرى أولا رأي عرب الخليج، العرب الأصليين (؟)

 ثم مشكلة هوية (الشعب) المرتبطة بفقدان اللغة المحلية ليست سمة المغاربة وحدهم، بل تحدث في أي مكان، ولنذكر على سبيل المثال الاسكتلنديين والأيرلنديين الذين فقدوا لغاتهم المحلية، ومع ذلك، لم يفقد أي منهما هويته، حتى وإن تحدثوا اللغة الإنجليزية اليوم.

إن تاريخنا مليء بأمثلة ملهمة، والتي يمكن بل ويجب أن نستخلص منها دروساً مفيدة لبناء العيش المشترك في الجزائر. وقد استخدم مناظلو الحركة الوطنية على مدى عقود الفرنسية – لغة فرنسا … والاستعمار-  لمحاربة العدو أي الاستعمار الفرنسي. وقد كتبت النصوص التأسيسية  للأفالان (1954-1962) بهذه اللغة. وعلاوة على ذلك، تمكّن العديد من المثقفين الناطقين بالفرنسية ( الموهوب عمروش، محمد ديب، معمري، كاتب ياسين) من التمييز بين اللغة الفرنسية التي استخدموها وأتقنوها بشكل رائع، وهويتهم الفردية والجماعية.

لهذا فالأوان لم يفت بعد بالنسبة للمعربين المغاربة “ليعودا إلى الجذور” والتمييز بين اللغة العربية (الفصحى) والهوية الأمازيغية، والشروع في دراسات “العربية المغاربية” وتدريسها، وأعتقد أن الإسلام يحث الناس والشعوب على “العودة إلى أصولهم”.

منذ التسعينات، لم تقبل بعض دوائر السلطة المركزية في الجزائر فكرة الوجود الرسمي للأمازيغية ( لغةً وثقافةً) ، من جهة أخرى، اعترف آخرون في النهاية من خلال ما اُقترح في إطار “المصالحة الوطنية الشاملة” أي المكون الثلاثي: الإسلام – العروبة – الأمازيغية كعناصر تشكل الهوية الجزائرية. ولكن حتى على مستوى هذه الثلاثية، نلاحظ تدليساً وتلاعباً إن كان في صياغتها أو نواحي أخرى. فوفقاً للحقائق التاريخية الثابتة فالأمازيغية سابقة للإسلام وكذلك العروبة. بالإضافة إلى ذلك، تنص ديباجة دستور 2016 على أن الجزائر “أرض عربيّة” وفي أماكن أخرى من نفس نص القانون،لا تظهر الأمازيغية في “الثوابت الوطنية” !

فيما يخص التعليم، يبدأ تدريس الأمازيغية من السنة الرابعة، أي بعد العربية وحتى الفرنسية، وهذا يخبرنا جيّداً عن المكانة التي تعطيها الدولة الجزائرية للغة “الثالثة”. كما تعتبر من ناحية أخرى مادة اختيارية قابلة للتبديل مع غيرها من المواد “غير الهامة” مثل الموسيقى. وبدلا من معالجة كل هذه الإختلالات بأسرع ما يمكن، تدافع السلطة عن هكذا خيار باللعب على الإحصاءات، وإظهار عدد المعلمين والمتعلمين أو تدعي أن “الأمازيغية  تدرس في 20، ثم 38 ولاية”. والواقع أنه في بعض هذه الولايات لا يوجد سوى عدد قليل من المناصب (أقل من 10) وأن بعض مديريات التربية وأولياء التلاميذ يفعلون كل ما في وسعهم من عبوس ومقاومة تدريس هذه اللغة “الاختيارية” متحجّجين بالنص التنظيمي الصادر عن وزارة التربية والتعليم، مقدمين إعفاءات من تعلمها قانونية و مؤشرة.

على الجانب الآخر، فإن المعارضة في منطقة القبائل وغيرها من المناطق لا تتذكر حقا تمازيغت إلا في تواريخ معينة من السنة: الأول من  يناير، 20 أبريل … الخ.  باستثناء عدد قليل من الأفراد والجمعيات الثقافية يمكننا القول دون خوف من الخطأ  أنه لا الأحزاب السياسية ولا النقابات ولا الهيئات المنتخبة (مجالس بلدية وولائية) ولا المؤسسات عامة كانت أو خاصة  تهتمّ لها. نذكر على سبيل الاستدلال الوجود الجرافيكي، فإن مؤسسات الدولة وحدها هي التي تولي نوعا من العناية لهذه اللغة (أسماء مؤسسات، لوحات، علامات وغيرها بالأمازيغية) ولا يبدو أن الشركات الخاصة والأفراد والقرى  معنيون على الإطلاق بوجود هذه اللغة في بيئتهم.

حقيقة أخرى مهمة، بعض آباء الطلاّب والناشطين أو مسؤولي الأحزاب والمنتخبين وغيرهم من البرجوازية الصغيرة (التجار الكبار والمعلمين والأطباء والصيادلة، …) لاينقلون حتى بالطريقة التقليدية هذه اللغة إلى ذريّتهم؛ بل يُثنونهم عن ممارستها في الحديث أو الكتابة  أو تعلمها حتى عندما يكون ذلك متوفراً.

لنتطرق للجانب العلمي.

إن أقسام اللغة والثقافة الأمازيغية في الجامعات في منطقة القبائل مازالت في منشأها، حيث يعود ميلادها إلى بداية التسعينيات، وفي وقت قصير كهذا (1/4 من القرن)، لا يمكن إطلاقاً أن تجيب على الأسئلة التي تطرحها هذه اللغة ذات السمة الشفوية  منذ الأزل، كتدريسها وتهيئتها لغوياً. إن التحدي الحالي هو التكوين على توظيفها (التعليم والاتصالات) والبحث العلمي فيها. غير أنه من المؤسف أن نلاحظ أن هذه الأقسام تعاني من بعض النقائص: قلة المسؤولية والضمير المهني، تراجع التكوين النوعي ، غياب الروح الجماعية وترفع الأساتذة الجامعيين الشباب عنها.

خارج هذه الهيئات نجد عدة متدخلين، هم جزائريون جامعيون  درسو بشكل عام تخصصات أخرى غير المجال الأمازيغي. وهؤلاء عموماً لم يقدموا أي شيء لهذه اللغة خلال مسارهم المهني: لا إشراف (مذكرات، أطروحات) ولا منشورات (مقالات، كتب) ومع ذلك، يتم تعيينهم في مناصب مسؤولية على المؤسسات ذات الصلة بها، و الغريب في الأمر يُطلَبون دائما من قبل وسائل الإعلام المقروءة والسمعية البصرية الجزائرية لإبداء آرائهم. لقد رأينا وسمعنا البعض يتحدث عن تمازيغت، عن حروفها، تدريسها و تهيئتها لغوياً، في حين أن لا علاقة تربطهم (أو قليلا جدا) مع تمازيغت، فهم حتى لا يتكلّمونها، لم يُجرُو أي دراسة أكاديمية، أو تحقيق ميدانيّ عنها و لا يملكون أي شهادة معترف بها، والبعض لا يعرفون حتى صوتياتها وعلم الصواتيات الوظيفية ذات الصلة.

في آرائهم، وهو ما يناقض  الدراسات أو التحليلات، يرتكبون أخطاءً منهجية جسيمة ومخالفات أخلاقية لا تغتفر بعيدة كلياً عن الصدق والنزاهة الفكرية، ونتيجة لذلك نجدهم يتصرفون كإيديولوجيين أكثر منهم كخبراء أو “ذوي علم”، وبدلا من العلم يعرضون جهلهم للموضوع كبضاعة. فكيف يتجرؤون مثلا الحديث عن توحيد و معيارية اللغة الأمازيغية وهم بعيدون قلبا وقالبا عنها، عن استعمالاتها وممارستها حديثا وكتابة، و تعليمها، بل وتوحيدها ومعياريتها عملياً ؟

إذا تطرقنا مثلاً للتعدد الجغرافي الذي فُرضَ في الجزائر فهو من صنع هؤلاء المتدخلين وبعض دوائر السلطة وإمتداداتها الإعلامية، فكتابة الأمازيغية بالأحرف العربية لم نعرف لها وجودًا قبل نهاية التسعينات !!! بل وزارة التربية هي من دفعت بها للمرة الأولى عبر وسائل الإعلام وأقحمتها في الكتب المدرسية. والكل يعلم أنه لا وجود لأي ممارسة اجتماعية فعلية للأمازيغية بالحرف العربي لا في منطقة القبائل ولا في غيرها كالأوراس أو بني ميزاب، والدليل هو عدم وجود أيّ وثيقة مكتوبة بهذا النمط. إذا كان الأمر كذلك فلماذا الكذب على المواطنين ؟ كيف سمحوا لأنفسهم بالحديث عن “الوحش اللغوي”  و “Novlangue”   أي اللغة المخترعة المميعة التي لا يمكن أن تعبر عن مظاهر الحياة، أو الرسوب المدرسي قبل حتى الاستفسار عن الأمر لدى المعنيين الميدانيين مباشرة (المدرسين والمتعلمين) ؟ كيف أمكنهم الحديث عن “اللهجات الأمازيغية في طريق الانقراض” في غياب كامل للدراسات الاستقصائية والإحصاءات ؟ من أين عرفوا أن جميع الكلمات المستحدثة غير مقبولة وليست محل تقدير دون مسوح اجتماعية لغوية على مستعمليها ؟

في الجزائر لا يوجد أي إحصاء سكّاني أو مسح إجماعي لغوي، لذلك كيف لنا أن نعرف: كم من الناس يتكلمون الشاوية (الشاوية والعربية)، القبيائلية (القبائلية والعربية)، الميزابية … ونحن على مشارف 2017 ؟ في غياب هذه البيانات الميدانية كيف يمكن لأيّ كان معرفة ما إذا كان هذا المتغير الغوي أو ذاك حياً مستعملا أو يموت ببطء ؟

هناك نقطة أخيرة مهمة يجب إثارتها:  يستحسن دائما بناء الآراء على أساس المعطيات الميدانية الثابتة والحقيقية (التاريخية، الاجتماعية، السوسيو- لغوية)، فــ “الحالة الأمازيغية” شئنا أم أبينا ولدت في منطقة القبائل ولا تزال  تحمل عبئها- قد يسميها البعض لعنة –  هذه المنطقة كما لا ننكر أننا اليوم نتقاسمه مع مناطق وحتى دول أخرى. ليس صدفةً أو ولاءً للسلطة إذًا أن كل شيء أو تقريبا يتحرك في هذه المنطقة، فنكران هذه الحقيقة هو ببساطة عدم إمتلاك لأي إحساس بالتاريخ أو تقدير لمعناه على الإطلاق. واليوم أيضاً البعض من الأمازيغ تدفعهم الكراهية يطرحون ولو باقتضاب إشكالية “احتكار المنطقة” للأمازيغية، على أساس أن أبنائها هم من يدرّسونها في المناطق الأخرى من الوطن، فمن الأفضل أن  يلوموا أنفسهم قبل تشويه وشيطنة هذه المنطقة في كل مرّة.

 مرة أخرى فلنتفادى إزعاج الأشخاص والجماعات التي التي تكدّ، وإلا فلماذا لا يتوجه المتحصلون على البكالوريا من المناطق الأمازيغية الأخرى إلى أقسام اللغة والثقافة الأمازيغة بمنطقة القبائل لتعلمها ومن ثم العودة إلى مناطقهم الأصلية لنشر وتعليم متغيرهم الأمازيغي المحلي فيها؟ .

بقلم كمال بوعمارة في 26.12.2017

بروفيسور وباحث في الأدب الأمازيغي بجامعة بجاية. مؤلف أول قاموس أمازيغي-أمازيغي، كاتب و ترجم عدة أعمال أدبية منها "أيام منطقة القيائل" لمولود فرعون، أحد واضعي قواعد اللغة الأمازيغية.

ترجمة الأستاذ قاسي مخلوف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!