مولود معمري هدية السماء التي أخرجت تمازيغت من الجبال والصحاري الى العالمين
من أكبر مثقّفي بلدنا في القرن 20 ، الكاتب ، الروائي ، رجل المسرح ، عالم اللغات ، المختص في علوم الإنسان، الرجل الذي كرّس حياته لجمع التراث الأمازيغي و إحياء الثقافة الأمازيغية، الرّجل الذي ناضل طول حياته من أجل الجزائر التي كان يحبها حتى النخاع ، العديد منا يعرف إسم مولود معمري ، لكن القليل جدا من يعرف مسيرته ، أفكاره ، إنجازاته … و فكره الأصيل الذي ما أحوجنا إليه اليوم …
ولد مولود معمري يوم 28 ديسمبر 1917م في قرية تاوريرت ميمون ، بلدية آيث ينّي حاليا ( ولاية تيزي وزو ) وسط عائلة محافظة ، درس في ابتدائية قريته ، لما بلغ 11 سنة سافر إلى المغرب عند عمّه محند لوناس معمري ، الذي كان المعلم الخاص للأمير محمد ، الذي سيصبح الملك المغربي محمد الخامس ، بعد 4 سنوات من الإقامة في الرباط ، عاد دا لمولود إلى الجزائر سنة 1932 ،أين واصل دراسته بثانوية بيجو ( ثانوية الأمير عبد القادر بباب الواد ) بالعاصمة ، تفوقه في الدراسة سمح له بالإنتقال إلى باريس لإكمال مساره المعرفي ، أين كان يطمح للدراسة في المدرسة المعيارية العليا ( école normale supérieure ) ، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك ، أين جنّد دا لمولود في الجيش الفرنسي إجباريا ، و شارك في معارك بفرنسا و إيطاليا و ألمانيا
بعد اجتيازه لمسابقة الأساتذة بنجاح عاد دا لمولود إلى أرض الوطن سنة 1947 بشهادة عليا ، امتهن التدريس في المدية و بن عكنون ، في هذه الفترة بدأ دا لمولود في الكتابة ، مستعينا بتجاربه العديدة … من قريته تاوريرت ميمون إلى أضواء باريس ، مرورا بالقصر الملكي بالمغرب و جحيم الحرب العالمية الثانية …. فكتب سنة 1952 إحدى أروع روايات القرن 20 : الربوة المنسية ( la colline oubliée ) ، التي كانت تحمل في طياتها وصفا لمعاناة شعبنا من ظلم و بطش المستعمر …. في فترة كانت فيها ثلة من شباب بلدنا تحضّر لثورتنا المباركة …
في بداية الثورة واصل دا لمولود مشواره في التعليم ، لكن تعرضه للمضايقات من طرف المستعمر جعلته يسافر إلى المغرب في ذروة معركة الجزائر سنة 1957 ، بعد الإستقلال عاد دا لمولود إلى أرض الوطن ، أين بدأ مشواره في جمع التراث الأمازيغي ، و في نفس الوقت كان يدرّس الأمازيغية في جامعة الجزائر ، في إطار كلية علوم الإنسان ، لأن مادة الأمازيغية كانت قد ألغيت رسميا سنة 1962 ، بالموازاة مع ذلك واصل دا لمولود الكتابة ، فأصدر سنة 1965 رائعته الثانية : الأفيون و العصا … الرواية التي أبرزت معاناة شعبنا في الفترة الإستعمارية ، و كفاحه من أحل الحفاظ على هويته و أرضه … الرواية التي ترجمت إلى عشرات اللغات في العالم ، و التي أنتجت في شكل فيلم سينمائي من إخراج أحمد راشدي ، أصدر سنة 1971 ، الفيلم الذي نال العديد من الجوائز الدولية، و أبدع فيه عمالقة السينما الجزائرية ، مثل رويشد ، حسن حسني ، سيد علي كويرات ، محي الدين باشطارزي ، مصطفى كاتب … رحمهم الله
بين سنتي 1969 و 1980 ، كان مولود معمري مديرا لمركز الأبحاث الأنثروبولوجية ، ما قبل التاريخية و الإثنوغرافية للجزائر ( CRAPE ) ، فترة كان فيها لأشهر رئيسا للاتحاد الوطني للكتاب الجزائريين ، رغم انشغاله بالتدريس ، و إعطاء دروس في الأمازيغية بصفة تطوعية بجامعة الجزائر ، واصل دا لمولود جمعه للتراث الأمازيغي ، في سنة 1967 أصدر قاموسا تارڨيا – فرنسيا ، في سنة 1969 أصدر كتابا جمع فيه أشعار سي محند أومحند ، سماه : إسفرا ( الأشعار ) ، في سنة 1976 أصدر كتابه الشهير : تاجرومت ن تمازيغت ( النحو في الأمازيغية ) ، الذي يعتبر أول عمل أكاديمي في التاريخ يؤصل قواعد نحوية للغة الأمازيغية الموحدة ….. كتاب سماه تاجرومت ، نسبة للعالم الأمازيغي إبن آجروم ( القرن 13 م ) ، الذي كتب المتن الشهير : الآجرومية ، الذي يعتبر مرجعا لقواعد النحو في اللغة العربية ،
دا لمولود الذي سافر إلى كل المناطق التي لا تزال تستعمل فيها لهجات أمازيغية … حتى أقاصي الصحراء عند التوارڨ ، و في ڨورارة التي استقر بها زمنا بمدينة تيميمون ، التي يتذكره أهلها إلى اليوم ، المدينة التي تعرف فيها على تراثها الأمازيغي الرائع : أهلّيل ، المديح الصوفي الزناتي الذي يعتبر اليوم تراثا عالميا لا ماديا، بعدما عرّف به دا لمولود في كتابه : أهلّيل ڨورارة ( سنة 1984م ) ، دا لمولود الذي تعرض لمضايقات كثيرة من طرف النظام الفاسد العنصري ، خاصة في فترة الرئيس بومدين ، الذي ألغى معهد الأنثروبولوجيا مما اضطر دا لمولود لإعطاء دروس تطوعية سرية في نفق جامعة الجزائر ،غار حراك اليوم، دروس تحت غطاء الوزير آنذاك : أحمد طالب الإبراهيمي رحمه الله ، دروس كانت تحضرها والدتي حفظها الله و أطال في عمرها ، كما كانت تحضر دروسا سرية أخرى لعملاق آخر من عمالقة بلدنا : مالك بن نبي رحمه الله، الذي كانت تربطه بدا لمولود علاقة صداقة قوية رغم اختلاف ثقافة الرجلين ….. وهي شهادة أشهدها أمام الله ، عكس ما روج له الدكتور الشهير المتخصص في زرع الحقد و الكراهية بتحريف التاريخ .
في سنة 1980 ، أدّى إلغاء محاضرة لمولود معمري حول الشعر القبائلي ، بجامعة تيزي وزو ، إلى غليان شعبي ، تمخّضت عنه أحداث الربيع البربري التي اندلعت يوم 20 أفريل ، و رغم محاولاته تهدئة الأوضاع مع عدد من حكماء المنطقة ، إلا أن قمع و ظلم قوات الأمن أدت إلى تأزم الأوضاع ….. ووقوع العديد من الضحايا الأبرياء …. رغم كل المضايقات و العراقيل واصل دا لمولود نضاله الفكري من أجل ثقافة أجداده ، في سنة 1982 أسس مركز الدراسات و الأبحاث الأمازيغية ( CERAM ) ، و مجلة أوال ( الكلام ) الني جمع فيها كما هائلا من التراث الأمازيغي ، أعمال و مشوار علمي و أدبي زينته العشرات من الإصدارات : مقالات ، مسرحيات ، كتب ، محاضرات .. الخ ، كل هذا بأسلوب علمي رصين ، جامع حكيم ….
يقول دا لمولود في حوار صحفي ، لما سألته صحفية مشرقية : لماذا لا تكتب بالعربية ؟؟ فأجاب :
” حاولت تعلم العربية عدة مرات فلم أوفّق في ذلك ، إخفاقي في تعلم لغة بلدي أظهر جليا حماقتي ، مأساتي الداخلية تسببت في آلام كبيرة ، لكن الأجيال الآتية من الكتاب الجزائريين ، سيتداركون كل ما حرموا منه … “
في موقف تاريخي ، يبرز جليا ان دا لمولود لم يكن له أي موقف عدائي او سلبي تجاه اللغة العربية ، على العكس ممن يحاولون تنصيب أنفسهم أوصياء على الأمازيغية اليوم ، موقف يوضّح جليا لماذا اختار دا لمولود الحرف اللاتيني لكتابة الأمازيغية ، لأنه و ببساطة لم يكن يحسن سواه آنذاك …
في مقال بتاريخ 11 أفريل 1980 ( 9 أيام قبل الربيع البربري ) ، ردّ فيه دا لمولود على صحفي جريدة المجاهد كمال بلقاسم ، الذي تهجم فيه عليه و على الأمازيغية ، و قال أن الأمازيغية تناقض المبادئ العربية الإسلامية ، قال دا لمولود رحمه الله :
” أعتقد شخصيا ، أنه و إضافة إلى العمق الأمازيغي الذي يوحدنا جميعا ، الإسلام و القيم الإسلامية يشكلان عاملا مهمّا لتحديد معالم هويتنا ، إسلام القرون الأولى قام بتحرير الأمازيغ ، و أصبح بعد ذلك عامل وحدة مهم جدا في مواجهة الغزو المسيحي ، أتكلم هنا عن إسلام الأجداد ، الإسلام السمح الحداثي ، و ليس الذي طبع الساعات السوداء من تاريخنا … “
كلام رائع ، يشكل نبراسا ينير دربنا … على خطى أجدادنا ….
توفي دا لمولود يوم 26 فيفري 1989 م بولاية عين الدفلى ، إثر حادث سير لما كان عائدا من وجدة ( المغرب ) أين شارك في ملتقى حول الأمازيغية ، يقال أن الحادث سببه سقوط شجرة على سيارته …. لكن الكثير يشككون في كون الحادث مجرد صدفة ، يوم 27 فيفري نقل جثمانه إلى منزله بالعاصمة ، ليدفن يوم 28 في مقبرة أجداده بتاوريرت ميمون ، في جنازة مهيبة حضرها حوالي 200.000 شخص … شيعوا احد عمالقة بلدنا في تاريخها الحديث … الرجل الذي كرّس حياته لجمع تراث شعب من الإندثار …. بعد وفاته سميت باسمه جامعة تيزي وزو ، جامعة مولود معمري … رحمه الله تعالى و جزاه عنا خير الجزاء ….
دا لمولود الروائي ، الحكيم ، الباحث ، المبدع ، رجل الميدان ،الجامعي الذي كرمته جامعة السوربون بدكتوراة فخرية أواخر الثمانينات من القرن 20، مولود معمري الذي قال يوما : ” تقولون أنني رمز الثقافة الأمازيغية، هذه ثقافتي ، ثقافة أجدادي … هي ثقافتكم أنتم كذلك … هي أحد أهم مكونات الثقافة الجزائرية ، التي تساهم في إثرائها و تنويعها .. لذلك أصرّ ، كما يجب ان تصرّوا معي ، على الحفاظ عليها و تطويرها ….. ” …… دا لمولود الذي ناضل لوحده من اجل ذاكرة شعبنا … في فترة كان الحديث عن الأمازيغية جريمة … في زمن القمع و الدكتاتورية و الرأي الواحد … لكنه بحكمته و رزانته و علمه … اكتسب احترام خصومه قبل أحبابه …. حتى أنه كرّم عدة مرات من طرف مسؤولي النظام آنذاك …..
بقلم الأستاذ معمر أمين بن سونة مع بعض التصريف
المصدر هنا