شخصيات أمازيغية

مولود معمري هدية السماء التي أخرجت تمازيغت من الجبال والصحاري الى العالمين

26 فيفري هي الذكرى 30 لوفاة العملاق دا لمولود معمري رحمه الله …. الرّجل الرّمز ….. الصورة رائعة ، نادرة جدا لدا لمولود و هو يجمع التراث الأمازيغي مع شيخ قد يكون من سكان منطقة تيڨورارين ( ڨورارة ) حسب هيئته و ملامحه ، و هي منطقة تقع شمال ولاية أدرار اليوم ، 1000 كم جنوب العاصمة ، في قلب الصحراء …. منطقة عاصمتها التاريخية مدينة تيميمون … منطقة لا يزال أهلها إلى اليوم يتكلمون الأمازيغية الزناتية .

العالم مولود معمري في الجنوب الجزائري يقوم بجمع التراث الشفاهي الامازيغي من شيوخ المنطقة



من أكبر مثقّفي بلدنا في القرن 20 ، الكاتب ، الروائي ، رجل المسرح ، عالم اللغات ، المختص في علوم الإنسان، الرجل الذي كرّس حياته لجمع التراث الأمازيغي و إحياء الثقافة الأمازيغية، الرّجل الذي ناضل طول حياته من أجل الجزائر التي كان يحبها حتى النخاع ، العديد منا يعرف إسم مولود معمري ، لكن القليل جدا من يعرف مسيرته ، أفكاره ، إنجازاته … و فكره الأصيل الذي ما أحوجنا إليه اليوم …

ولد مولود معمري يوم 28 ديسمبر 1917م في قرية تاوريرت ميمون ، بلدية آيث ينّي حاليا ( ولاية تيزي وزو ) وسط عائلة محافظة ، درس في ابتدائية قريته ، لما بلغ 11 سنة سافر إلى المغرب عند عمّه محند لوناس معمري ، الذي كان المعلم الخاص للأمير محمد ، الذي سيصبح الملك المغربي محمد الخامس ، بعد 4 سنوات من الإقامة في الرباط ، عاد دا لمولود إلى الجزائر سنة 1932 ،أين واصل دراسته بثانوية بيجو ( ثانوية الأمير عبد القادر بباب الواد ) بالعاصمة ، تفوقه في الدراسة سمح له بالإنتقال إلى باريس لإكمال مساره المعرفي ، أين كان يطمح للدراسة في المدرسة المعيارية العليا ( école normale supérieure ) ، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك ، أين جنّد دا لمولود في الجيش الفرنسي إجباريا ، و شارك في معارك بفرنسا و إيطاليا و ألمانيا

بعد اجتيازه لمسابقة الأساتذة بنجاح عاد دا لمولود إلى أرض الوطن سنة 1947 بشهادة عليا ، امتهن التدريس في المدية و بن عكنون ، في هذه الفترة بدأ دا لمولود في الكتابة ، مستعينا بتجاربه العديدة … من قريته تاوريرت ميمون إلى أضواء باريس ، مرورا بالقصر الملكي بالمغرب و جحيم الحرب العالمية الثانية …. فكتب سنة 1952 إحدى أروع روايات القرن 20 : الربوة المنسية ( la colline oubliée ) ، التي كانت تحمل في طياتها وصفا لمعاناة شعبنا من ظلم و بطش المستعمر …. في فترة كانت فيها ثلة من شباب بلدنا تحضّر لثورتنا المباركة …

في بداية الثورة واصل دا لمولود مشواره في التعليم ، لكن تعرضه للمضايقات من طرف المستعمر جعلته يسافر إلى المغرب في ذروة معركة الجزائر سنة 1957 ، بعد الإستقلال عاد دا لمولود إلى أرض الوطن ، أين بدأ مشواره في جمع التراث الأمازيغي ، و في نفس الوقت كان يدرّس الأمازيغية في جامعة الجزائر ، في إطار كلية علوم الإنسان ، لأن مادة الأمازيغية كانت قد ألغيت رسميا سنة 1962 ، بالموازاة مع ذلك واصل دا لمولود الكتابة ، فأصدر سنة 1965 رائعته الثانية : الأفيون و العصا … الرواية التي أبرزت معاناة شعبنا في الفترة الإستعمارية ، و كفاحه من أحل الحفاظ على هويته و أرضه … الرواية التي ترجمت إلى عشرات اللغات في العالم ، و التي أنتجت في شكل فيلم سينمائي من إخراج أحمد راشدي ، أصدر سنة 1971 ، الفيلم الذي نال العديد من الجوائز الدولية، و أبدع فيه عمالقة السينما الجزائرية ، مثل رويشد ، حسن حسني ، سيد علي كويرات ، محي الدين باشطارزي ، مصطفى كاتب … رحمهم الله

بين سنتي 1969 و 1980 ، كان مولود معمري مديرا لمركز الأبحاث الأنثروبولوجية ، ما قبل التاريخية و الإثنوغرافية للجزائر ( CRAPE ) ، فترة كان فيها لأشهر رئيسا للاتحاد الوطني للكتاب الجزائريين ، رغم انشغاله بالتدريس ، و إعطاء دروس في الأمازيغية بصفة تطوعية بجامعة الجزائر ، واصل دا لمولود جمعه للتراث الأمازيغي ، في سنة 1967 أصدر قاموسا تارڨيا – فرنسيا ، في سنة 1969 أصدر كتابا جمع فيه أشعار سي محند أومحند ، سماه : إسفرا ( الأشعار ) ، في سنة 1976 أصدر كتابه الشهير : تاجرومت ن تمازيغت ( النحو في الأمازيغية ) ، الذي يعتبر أول عمل أكاديمي في التاريخ يؤصل قواعد نحوية للغة الأمازيغية الموحدة ….. كتاب سماه تاجرومت ، نسبة للعالم الأمازيغي إبن آجروم ( القرن 13 م ) ، الذي كتب المتن الشهير : الآجرومية ، الذي يعتبر مرجعا لقواعد النحو في اللغة العربية ،

دا لمولود الذي سافر إلى كل المناطق التي لا تزال تستعمل فيها لهجات أمازيغية … حتى أقاصي الصحراء عند التوارڨ ، و في ڨورارة التي استقر بها زمنا بمدينة تيميمون ، التي يتذكره أهلها إلى اليوم ، المدينة التي تعرف فيها على تراثها الأمازيغي الرائع : أهلّيل ، المديح الصوفي الزناتي الذي يعتبر اليوم تراثا عالميا لا ماديا، بعدما عرّف به دا لمولود في كتابه : أهلّيل ڨورارة ( سنة 1984م ) ، دا لمولود الذي تعرض لمضايقات كثيرة من طرف النظام الفاسد العنصري ، خاصة في فترة الرئيس بومدين ، الذي ألغى معهد الأنثروبولوجيا مما اضطر دا لمولود لإعطاء دروس تطوعية سرية في نفق جامعة الجزائر ،غار حراك اليوم، دروس تحت غطاء الوزير آنذاك : أحمد طالب الإبراهيمي رحمه الله ، دروس كانت تحضرها والدتي حفظها الله و أطال في عمرها ، كما كانت تحضر دروسا سرية أخرى لعملاق آخر من عمالقة بلدنا : مالك بن نبي رحمه الله، الذي كانت تربطه بدا لمولود علاقة صداقة قوية رغم اختلاف ثقافة الرجلين ….. وهي شهادة أشهدها أمام الله ، عكس ما روج له الدكتور الشهير المتخصص في زرع الحقد و الكراهية بتحريف التاريخ .

في سنة 1980 ، أدّى إلغاء محاضرة لمولود معمري حول الشعر القبائلي ، بجامعة تيزي وزو ، إلى غليان شعبي ، تمخّضت عنه أحداث الربيع البربري التي اندلعت يوم 20 أفريل ، و رغم محاولاته تهدئة الأوضاع مع عدد من حكماء المنطقة ، إلا أن قمع و ظلم قوات الأمن أدت إلى تأزم الأوضاع ….. ووقوع العديد من الضحايا الأبرياء …. رغم كل المضايقات و العراقيل واصل دا لمولود نضاله الفكري من أجل ثقافة أجداده ، في سنة 1982 أسس مركز الدراسات و الأبحاث الأمازيغية ( CERAM ) ، و مجلة أوال ( الكلام ) الني جمع فيها كما هائلا من التراث الأمازيغي ، أعمال و مشوار علمي و أدبي زينته العشرات من الإصدارات : مقالات ، مسرحيات ، كتب ، محاضرات .. الخ ، كل هذا بأسلوب علمي رصين ، جامع حكيم ….

يقول دا لمولود في حوار صحفي ، لما سألته صحفية مشرقية : لماذا لا تكتب بالعربية ؟؟ فأجاب :

” حاولت تعلم العربية عدة مرات فلم أوفّق في ذلك ، إخفاقي في تعلم لغة بلدي أظهر جليا حماقتي ، مأساتي الداخلية تسببت في آلام كبيرة ، لكن الأجيال الآتية من الكتاب الجزائريين ، سيتداركون كل ما حرموا منه … “

في موقف تاريخي ، يبرز جليا ان دا لمولود لم يكن له أي موقف عدائي او سلبي تجاه اللغة العربية ، على العكس ممن يحاولون تنصيب أنفسهم أوصياء على الأمازيغية اليوم ، موقف يوضّح جليا لماذا اختار دا لمولود الحرف اللاتيني لكتابة الأمازيغية ، لأنه و ببساطة لم يكن يحسن سواه آنذاك …

في مقال بتاريخ 11 أفريل 1980 ( 9 أيام قبل الربيع البربري ) ، ردّ فيه دا لمولود على صحفي جريدة المجاهد كمال بلقاسم ، الذي تهجم فيه عليه و على الأمازيغية ، و قال أن الأمازيغية تناقض المبادئ العربية الإسلامية ، قال دا لمولود رحمه الله :

” أعتقد شخصيا ، أنه و إضافة إلى العمق الأمازيغي الذي يوحدنا جميعا ، الإسلام و القيم الإسلامية يشكلان عاملا مهمّا لتحديد معالم هويتنا ، إسلام القرون الأولى قام بتحرير الأمازيغ ، و أصبح بعد ذلك عامل وحدة مهم جدا في مواجهة الغزو المسيحي ، أتكلم هنا عن إسلام الأجداد ، الإسلام السمح الحداثي ، و ليس الذي طبع الساعات السوداء من تاريخنا … “

كلام رائع ، يشكل نبراسا ينير دربنا … على خطى أجدادنا ….

توفي دا لمولود يوم 26 فيفري 1989 م بولاية عين الدفلى ، إثر حادث سير لما كان عائدا من وجدة ( المغرب ) أين شارك في ملتقى حول الأمازيغية ، يقال أن الحادث سببه سقوط شجرة على سيارته …. لكن الكثير يشككون في كون الحادث مجرد صدفة ، يوم 27 فيفري نقل جثمانه إلى منزله بالعاصمة ، ليدفن يوم 28 في مقبرة أجداده بتاوريرت ميمون ، في جنازة مهيبة حضرها حوالي 200.000 شخص … شيعوا احد عمالقة بلدنا في تاريخها الحديث … الرجل الذي كرّس حياته لجمع تراث شعب من الإندثار …. بعد وفاته سميت باسمه جامعة تيزي وزو ، جامعة مولود معمري … رحمه الله تعالى و جزاه عنا خير الجزاء ….

دا لمولود الروائي ، الحكيم ، الباحث ، المبدع ، رجل الميدان ،الجامعي الذي كرمته جامعة السوربون بدكتوراة فخرية أواخر الثمانينات من القرن 20، مولود معمري الذي قال يوما : ” تقولون أنني رمز الثقافة الأمازيغية، هذه ثقافتي ، ثقافة أجدادي … هي ثقافتكم أنتم كذلك … هي أحد أهم مكونات الثقافة الجزائرية ، التي تساهم في إثرائها و تنويعها .. لذلك أصرّ ، كما يجب ان تصرّوا معي ، على الحفاظ عليها و تطويرها ….. ” …… دا لمولود الذي ناضل لوحده من اجل ذاكرة شعبنا … في فترة كان الحديث عن الأمازيغية جريمة … في زمن القمع و الدكتاتورية و الرأي الواحد … لكنه بحكمته و رزانته و علمه … اكتسب احترام خصومه قبل أحبابه …. حتى أنه كرّم عدة مرات من طرف مسؤولي النظام آنذاك …..

بقلم الأستاذ معمر أمين بن سونة مع بعض التصريف

المصدر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!