أقلام حرة

مشكلة المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله مع البطل القومي يوغرطة النوميدي

أبو القاسم سعد الله بين يوغرطة وعقبة

   حينما نرى ما بلغته الحركة الامازيغية بالجزائر من مكاسب سياسية اليوم مقارنة بما كانت عليه غداة الاستقلال، خاصة مع الفكر السائد أنذاك عند العامة من الناس، وحتى الطبقة المتعلمة، يتأكد لنا بما لا مجال للشك فيه، أننا قد عدنا من نقطة الصفر التي كادت أن ترمي بتراثنا الأمازيغي في غياهب العدمية واللا عودة .
   وكمثال على أفكار أعداء البعد الأمازيغي حينها، سنقتبس من أحد أبرز المثقفين في الجامعة الجزائرية الذي لا زال حتى اليوم يحتكر لقب “شيخ المؤرخين الجزائريين” في الأوساط الأكاديمية . إنه الدكتور المؤرخ والباحث أبو القاسم سعد الله صاحب المؤلفات المتنوعة التي أصبحت اليوم مرجعا لا مفر منه لطلبة التاريخ في جامعاتنا، ومن بين مؤلفاته التي إخترناها لمثالنا ، كتاب بعنوان “أفكار جامحة“، الذي صدر سنة 1988، و الذي تهجم فيه على مناضلي الحركة الأمازيغية أو دعاة “النزعة البربرية” كما كان يلقبهم خصومهم، وقد عقد مؤرخنا في كتابه هذا مقارنة بين شخصية القائد يوغرطة النوميدي وعقبة بن نافع الفهري الأموي، وقال ما يلي : “ وفي نظرنا أن دعوة أولئك الجزائريين (يقصد البربريست) دعوة قبيلة … لأنهم يعرفون أن وحدة الشعب الجزائري لا تنعقد على رمز يوغرطة، ولكنها تنعقد على رمز عقبة بن نافع. إن رمز يوغرطة يفرق بيننا في المكان لأن الجزائر لم تكن موجودة في عهده بهذا الإسم، ولا بهذا الجحم، ولم يكن هو يستعمل اسم الجزائر، ولا كان يحارب الرومان باسمها الجغرافي. لماذا يريد أنصار يوغرطة أن يفرضوا قبيلته على سكان الغرب الجزائري وسكان الجنوب وسكان الوسط؟ وباسم ماذا؟ هل كان يوغرطة يتكلم لغتنا؟ هل كان يدين بديننا؟ وهل كانت قيمه وعاداته وتقاليده هي قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا؟ اللهم لا“.
ثم ينتقل للحديث عن عقبة بن نافع على أنه رمز حضارة عكس يوغرطة ويقول : “ أما عقبة فهو على النقيض من ذلك، يمثل العقيدة التي ندين بها، واللغة التي تربطنا بالعقيدة، والتاريخ الذي يربطنا بإخوتنا في الشمال والجنوب والشرق والغرب في المساحة التي سماها أجدادنا بالمغرب الأوسط والتي نطلق عليها منذ العثمانيين الجزائر ثم إن عقبة رمز حضارة بينما يوغرطة هو رمز جاهلية، وعقبة رمز وحدة وطنية وعربية وإسلامية، أما يوغرطة فهو رمز انفصال وقبلية و وثنية(1)
ولكم أن تتخيلوا الآن بعد هذا الإقتباس الفكر الذي كان سائدا عن أحد أبرز المثقفين في الجامعات الجزائرية، دكتور ومؤرخ جزائري يمجد رمزية بطل سعودي حجازي، عقبة بن نافع، الذي ارتبط اسمه بتوسع عسكري أموي على حساب أرضنا وعرض أجدادنا، ويقدح في رمزية بطل جزائري شمال إفريقي، يوغرطة النوميدي، الذي حمل السلاح ضد الإحتلال والتوسع الروماني ودافع عن عِرضِ أهله وحِياضِ أسلافه !
كل هذا و ذنبُ يوغرطة الوحيد أنه عاش قبل ظهور الإسلام فلم يعرض عليه الاسلام ليٓسْلم أو يرفض ، و لأنه ذو لسان أمازيغي عاش في زمن لم تتطور فيه بعد لهجة قبيلة قريش الى لغة جميع القبائل العربية بفعل الدين الجديد، و لأنه عاش في زمن المملكة النوميدية وليس زمن أيالة الدزاير العثمانية ولا الدولة الوطنية التي ظهرت بعد الاستقلال. فقد كان على يوغرطة ،حسب المؤرخ سعد الله، أن يحارب الرومان بإسم الجزائر التي لم يظهر حينها هذا الاسم وليس بإسم نوميديا وكأن عقبة كان يحارب كسيلة بإسم الجزائر أو بسكرة، وكان عليه أن يراسل القائد الروماني “سولا” ويقول له : ” اسلم تسلم يؤتك الله اجرك مرتين” بدل أن يقول قولته الشهيرة : روما أيتها المدينة المعروضة للبيع، لتبيدي إذا وجدت من يشتريك” ؟!
  فإذا كان سعد الله، وهو مؤرخ، يتحدث عن يوغرطة دون الرجوع الى كتاب الحرب اليوغرطية (bellum iugurthinum) للمؤرخ سالوستيوس و يقول أن يوغرطة كان يحارب بإسم “قبيلته” التي لا علاقة لها بسكان الغرب والجنوب ،حسبه، دون أن يعلم أن هذا القائد قد أنهى الحكم الثلاثي مع أخويه في التبني فقط لإستعادة وحدة مملكة جده ماسينيسا وهو سبب تخوف الرومان منه وارسالهم لجيوش جرارة، لوضع حد لطموحه ولمنع ظهور حنبعل جديد في المنطقة، تصدى لها يوغرطة بجيش أشرك فيه الجيتول (أمازيغ الجنوب) والمور (أمازيغ الغرب) … فما الذي سنتوقعه من عامة الناس اذا كان هذا موقف مثقف؟
و ما الذي جعل هذا المؤرخ يعادي جزءا مهما من تاريخ هذه البلاد الذي لجئ اليه المؤرخ توفيق المدني خلال الحقبة الاستعمارية للرد على مزاعم فرنسا التي كان مؤرخوها يروجون على أن هذه الارض ليس لها أي تاريخ ولا كيان سياسي سابقا، وأن سكانها كلهم وافدون من جزيرة العرب و شمال اوروبا فلا يحق لأحد المطالبة بملكيتها بإسم التاريخ من الفرنسيين الذين هم الورثة الشرعيين لأراضي الإمبراطورية الرومانية بشمال افريقيا ؟
الجواب هو فيروس العروبة المؤدلجة، إنه دين القومية العربية الذي قال فيه أحد شعرائها في المشرق، شفيق الكمالي : ” آمنتُ بالبعثِ ربّاً لا شريكَ له … وبالعروبة ديناً ماله ثاني ” هذا الفكر القومي العروبي الذي دافع عنه الدكتور سعد الله (2) هو الذي جعله يدفاع عن فكرة الوطن العربي الوهمي الذي أريد به أن يحل محل الخلافة، مما أبعده عن الإنتماء المحلي ، وهو ما أوقعه في معاداة التراث الأمازيغي تاريخا ولغة بل حتى الدارجة الجزائرية، بسبب تعارض هذا مع فكرة الوطن القومي العروبي، ويرى أن تاريخ الجزائر يبدأ من القرن السابع ميلادي فقط وأن ما قبلها جاهلية وعصبية قبلية.
  الفكر القومي العروبي هو من أقحمه كذلك في خصومة مع المجاهد والوزير مولود قاسم الذي عندما سئل عن القومية العربية أجاب : ” أضيفوا لها نقطة على القاف ” . وقد كتب الدكتور سعد الله عن مولود قاسم وقال : ” كنا نبحث في التاريخ اللامتناهي في الزمن السحيق لعلنا نجد لنا رمسيسا أو حمورابيا يحقق لنا العنصر الحضاري بين الشعوب. وقد وجد سي ميلود ذلك كما يبدو في يوغرطة وماسينيسا، بل وحتی في القديس أوغستين. أما أنا فلم أر في هؤلاء من يشبه حمورابيا أو رمسيسا، ولا نحن معهم نشبه الفراعنة والأشوريين والإغريق. فاكتفيت أنا بالأمجاد الذين برزوا منذ الفتح الإسلامي، وبقي سي مولود متشبثا بالأشباح. وهذا من الفروق في وجهات النظر بيني وبينه(3)
   ومن هنا يتضح لنا الفرق بين المثقف المؤدلج بالقومجية كأبو القاسم المعادي لتاريخ وتراث وطنه وبين مولود قاسم الذي ساعده إتقانه لخمس لغات على تقبل التعدد والتنوع فدافع عن العربية دون التنكر للأمازيغية، زود الشاعر المزابي مفدي زكريا بالمادة العلمية المتعلقة بتاريخنا القديم ليوظفها هذا الأخير في إلياذة الجزائر الخالدة، وجعل صورة البطل يوغرطة على غلاف مجلة الأصالة التي كان يصدرها في أوج قوة التيار العروبي الذي شن عليه حملة تشويه بسبب ذلك .
   أما سعد الله الذي ولد في “ڨمار” بواد سوف، وهي طوبونيميا أمازيغية ، فلم يرتد عن دين القومية العربية إلا في التسعينيات لما زار منطقة القبايل لغرض جمع المادة العلمية لكتابه “تاريخ الجزائر الثقافي” فتعرف هناك على روح الأمة الجزائرية، عندما جمع الشعر الشعبي الأمازيغي، الديني في أغلبه، و الذي كتب بلغة أمازيغية وخط عربي، كما ساهم صديقه ، الأستاذ علي مقران السحنوني، على تلقيح أفكاره ودفعه الى مراجعة مواقفه من الأمازيغية فكتب سعد الله سنة 1994 مقالا بعنوان ” هيئة مغاربة للغة البربرية” طالب فيه حكومات دول شمال افريقيا الى اعادة النظر في المكون الأمازيغي والتكفل بالأمازيغية لغلق الطريق أمام الدول الغربية ومنعها من إستغلال الأمازيغية ضد أمن و وحدة دول شمال افريقيا. و رغم أن المقال جاء بمعلومات تاريخية خاطئة تترجم عدم النضج الكلي لفكر صاحبه حول الموضوع، حيث ربط فيه الكتابة الأمازيغية “تيفيناغ” بالفينيقية وهو أمر رفضه المؤرج جيمس فيفري ( James Fevrier) المتخصص في الفينيقية وكذلك المؤرخ البريطاني أوريك بيتس (O.Bbates) المهتم بالتيفيناغ وتاريخ قدامى الليبيين (4) ، وكذلك وربط الأمازيغ بالأصول اليمنية إعتمادا على أسطورة إفريقش الحميري التي كذبها إبن خلدون بقوله : ” وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن(5) ، وتحدث فيه كذلك عن خزعبلة حزب PPK (حزب الشعب القبائلي) التي روجت لها المخابرات الفرنسية سنة 1949 لتقسيم صف الحركة الوطنية، رغم تكذيب مناضلي حزب الشعب لها (6) وربط الأكاديمية البربرية بفرنسا رغم أن هذه الأخيرة هي من قامت بغلقها وتجميد نشاطها سنة 1978 بطلب من الرئيس بومدين الذي كان جهازه العسكري يمنع النشاط الأمازيغي والسياسي في الجزائر وهو ما دفع بالمثقفين الأمازيغ الى الهروب بقضيتهم نحو المهجر حيث ولد نجم شمال افريقيا الإستقلالي وحزب الشعب، ليؤسسوا هذه الأكاديمية التي لم تكون سوى جمعية ثقافية و علمية سميت بالأكاديمية تيمنا بغدا أفضلا ولرفع معنويات أعضائها حسب شهادة أحد مؤسسيها (7) … إلا أن مقاله هذا كان مهما جدا لنضال الحركة الامازيغية نحو التعدد وحماية التراث الأمازيغي بسبب مكانة ورمزية المؤرخ سعد الله في أوساط النخبة المعربة التي كان أغلبها من مناوئي هذا الإرث و التراث الأصيل.
بقلم الأستاذ: مصطفى صامت
مراجع :
1– سعد الله ابو القاسم أفكار جامحة دار الغرب الاسلامي، بيروت، ط2، 2005، ص 17 .
2– سعد الله، نفس المرجع، ص، 10.
3– سعد الله أبو القاسم، خارج السرب، دار الغرب الاسلامي، بيروت، لبنان، ط2، 2005، ص 134 .
4– أوريك بيتس، الليبيون الشرقيون، النسخة الانجليزية، صفحة 85- 86 .
5– ابن خلدون ، العبر ، ج6 ص 134/135
6 – Ali guenoun, Chronologie du mouvement berbère, Casbah Editions,1999, P.190.
7 – Mouhand Araav Bessaoud, L’Histoire de Lacadémie berbère, 2000, P.28.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!