مسينيسا والسيادة النوميدية من منظور المصادر القديمة (دراسة تحليلية)

تتناول المداخلة نقطتين أساسيتين ركّز عليهما المؤرّخون القدامى دون غيرهما، الأولى هي تولية مسينيسا العرش النوميدي سنة 203 ق.م، إن كانت روما قد اعترفت به ملكًا أم نصبته ملكًا على نوميديا؟
والنّقطة الثانية هي مسألة خلافته، إن كان قد ترك فعلاً أمر استخلافه لسكيبيو سنة 148 ق.م، وأي صفة يتمتّع بها هذا الأخير حتى يترك له الأمر دون القنصلين المنتخبين ودون مجلس الشيوخ؟


كان يهدف معظم الكتاب اللاّتين وراء كتاباتهم إلى تمجيد الأمة الرومانية، وإظهار قوّتها وفضلها على العالم، وبالمقابل اعتبار كلّ الشّعوب والأمم الأخرى “همجًا”، لا دين ولا ملّة لهم، جلبوا على المكر والخديعة، ونذكر من هؤلاء المؤرّخين على سبيل المثال، لا الحصر، تيتوس ليفيوس (59 ق.م.-17م) وسالوستيوس (86-35 ق.م.).
وممّا لفت انتباهنا هنا بخصوص إشكالية “السّيادة النّوميدية”، أنّ كلّ ما وصلنا حولها مستمدٌّ أساساً من هذين المصدرين، مع غياب كليّ لبوليبيوس المعاصر للأحداث (208- 125 ق.م.)؛ والذي يعدّ شاهد عيان، ما دام قد حضر تدمير قرطاجة سنة 146 رفقة سكيبيو الإفريقي الثاني (185- 129 ق.م.)، واِلتقى مسينيسا قبل ذلك عدّة مرّات في قيرطا، وربّما أقام في قصره، وهو الذي بالغ في مدح الملك على رأي البعض( )، لكنّه لم يقل شيئًا حول موضوعنا ” السّيادة النّوميدية” ما عدا إشارته إلى نصّ معاهدة زاما 201 ق.م. على: “حق مسينيسا في استرجاع ممتلكاته وممتلكات أسلافه من دورٍ وأراض…، واعتباراً للحياد النّسبي الذي يتمتّع به بوليبيوس من ناحية والانحياز المطلق للمؤرّخين الرومان عامة وتيتوس ليفيوس وسالوستيوس على وجه الخصوص لقضايا روما، نجد أنفسنا أمام رؤية أحادية، نعرف مسبقاً أنّها لا تقدّم كلّ الحقيقة التّاريخية.


مع ذلك، يمكننا القول منذ البداية أنّ تيتوس ليفيوس، يهمّنا أكثر في فكّ إشكالية “السّيادة النّوميدية”، باعتبار سالوستيوس في كتابه حرب يوغرطة، انتقى الأحداث التي تخدم الهدف من تأليفه الكتاب المتمثل في التّصدّي لأعضاء مجلس السينا، من ناحية واعتبار الأحداث متأخّرة نسبياً عن عهد مسينيسا من ناحية أخرى، وإن كنّا سنضطرّ للإشارة لرأي سالوستيوس للاستئناس، وعلى سبيل تأكيد التناقضات، التي تتّسم بها هذه الكتابات عندما يتعلّق الأمر بروما ونوميديا.


أوّلا: اعتلاء مسينيسا:


1)- ركّز جلّ المؤرّخين على مرافقة ليليوس لمسينيسا في ملاحقته لسيفاكس وانتصاره عليه في معركة السهول في الثالث والعشرين من يونيو/ جوان 203 ق.م.، في وقت أهملوا فيه إشارة لتيتوس ليفيوس، تعدّ في نظرنا هامة، وبل حاسمة في الإجابة على سؤال طالما طرحه العديد من الباحثين: “هل اعترفت روما بمسينيسا ملكاً أم نصّبته ملكًا؟”( ) إذ يقول ليفيوس: “في نفس الفترة، وصل مسينيسا وليليوس إلى نوميديا بعد خمسة عشر يوما من السّير، حيث نصب الماسيليون مسينيسا على عرش أبيه، وكان سعيدًا جدًّا، باسترداده، بعد غياب طويل”( ).
تكمن أهمّية هذه الإشارة في كونها تشير إلى إعادة تنصيب مسينيسا ملكًا من طرف الماسيل بعيداً عن أيّ تأثير ما دام هذا التّنصيب قد جرى في مكان “ما” من نوميديا لم يذكره ليفيوس؛ بعيدًا عن ميدان المعركة بخمسة عشر يومًا، وقد سعد مسينيسا باستعادة عرشه بعد غياب طويل( ).


2)- على إثر اِنتصار مسينيسا على سيفاكس هنّأه سكيبيو، ومنحه تاجا وكافأه بالعديد من الهدايا()، بناء على ما يذكر أبيانوس( )، لكن نفس المؤرخ، أهمل الإشارة إلى نقطة هامة، أشار لها تيتوس ليفيوس( ) بهذه المناسبة وهي الاعتراف بمسينيسا ملكا على نوميديا: “سكيبيو اعترف بالسلطة الملكية للأمير النّوميدي”، وهو الاعتراف، الذي رسمه بعد ذلك مجلس الشيوخ بالمصادقة على مبادرة سكيبيو، ونؤكّد هنا على كلمة “أعترف” (reconnait) ثانية، وليس “نصّب”. تنصيب مسينيسا من طرف الماسيل “ملكا” بحضور ليليوس، ثمّ الاعتراف به “ملكا” من طرف سكيبيو، ما هو إقرار بما وقع، وهو الإقرار الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الروماني دون تحفّظ: “هنّأ الشيوخ بدورهم مسينيسا على دوره في الانتصار في حرب إفريقيا، وأكّدوا أنّ سكيبيو كان محقّاً وحسنًا فعل باعترافه بالمنصب الملكي لمسينيسا، ومنحوا موافقتهم دون تحفظ، كما صادقوا على كلّ المبادرات التي سيتّخذها سكيبيو مستقبلاً لإرضاء مسينيسا”، وهو ما يعني أنّ إرضاء مسينيسا، كان شيئًا مهمًّا ومحبّذًا ومقصودًا للدّور الذي يقوم به، وبهدف الوصول إلى ذلك، أرسلوا له الهدايا التّالية: • معطفان أرجوانيان مزخرفان بإبزيم من الذّهب. • جلباب بصدرية أرجوانية. • جوادان مزينان عند الصدر بصفائح فضية. • شكتا فارس مع درعين. • خيمتان مزودتان بكامل آلات الميدان المخصصة عادة للقنصلين( ). هكذا نلاحظ أنّ مجلس الشّيوخ، لم يكتف بالمصادقة دون تحفّظ، على المبادرة التي اتّخذها سكيبيو، بل صادق على كلّ المبادرات التي سيتّخذها مستقبلا لإرضاء مسينيسا، وهذا للدور المحوري الذي قام به الملك في هذه الحرب:

أ)- فكرة نقل الحرب إلى إفريقيا ذاتها، هي فكرة مسينيسا الذي يقول سيليوس إيطاليكوس( ) أنّ مسينيسا، أقترح على سكيبيو نقل الحرب إلى إفريقيا حتى يضطر حنبعل إلى مغادرة الأراضي الإيطالية، هذه الفكرة التي اعتبرها سكيبيو نصيحة، في الواقع تدلّ على استراتيجية عسكرية واضحة عند مسينيسا، وقد وعد سكيبيو بتقديم العون له، وقد ضغط لاحقًا، واستعجل إقلاع سكيبيو من صقلية في اتّصاله بليليوس في ضواحي هيبو( ).

ب)- بعد نزول القوات الرومانية في ضواحي أوتيكا، يبدو أنّها شعرت بالغربة في بلد لا تعرفه، ممّا جعل سكيبيو يستعجل قدوم مسينيسا، الذي كان يوم وصوله، أسعد أيام الرومان منذ نزولهم بإفريقيا، إذ قدّم لهم معرفته الواسعة بالميدان، فضلاً عن خيالته الرّهيبة، ممّا جعل ليفيوس يصفه بالمساعد الأهمّ لروما، وبأكبر ملوك عصره( ).

ج)- كانت هزيمة قرطاجة في معركة زاما (202 ق.م.) بفضل فعالية الفرسان النوميديين بقيادة مسينيسا. وبفضل الخطة التي رسمها لهذه المعركة، خاصة بالنّسبة للفيلة في البداية وعملية التّطويق للقوات القرطاجية لاحقاً( )، إذ يعز النصر عنذ بوليبيوس( )، المتبوع بتيتوس ليفيوس( )، للعمل الهام الذي قام به مسينيسا. والذي عاد بفرسانه من مطاردة الفرسان البونيقيين، وقام بتطويق الخطوط البونيقية من الخلف.

د)- أثناء المناوشات الأولى قبل معركة زاما، وبعد إخفاقه الأول وفقدانه لمؤونته، التمس حنبعل السلم بوساطة مسينيسا بناء على ما يقوله، بيانوس: “أرسل حنبعل مبعوثين إلى مسينيسا …. يترجّاه أيضاً هذه المرّة أن يرتّب له لقاء مع سكيبيو، بقصد الاتّفاق على السّلم”( ).

الأمر الذي يعني “أنّ مسينيسا قد لعب أيضاً دوراً في مختلف مراحل التفاوض قبل وبعد الحرب، وأنّ نصّ معاهدة زاما (201 ق.م.) على مصالح الملك كطرف ثالث في الصراع يؤكّد هذا الدّور.

ثانيا: خلافة مسينيسا:

الأمر الآخر الذي أسال الكثير من الحبر هي مسألة خلافة مسينيسا إثر وفاته سنة 148 ق.م.، والدور المسند لسكيبيو إيميليانوس (185- 129 ق.م.) في هذا الأمر. عند احتضار مسينيسا في أواخر سنة 149ق.م.، كانت الحرب البونيقية الثالثة (149- 146ق.م.) قد بدأت في ربيع تلك السنة، وعرفت تقلّبات لم يتوقّعها مجلس الشيوخ الرّوماني( )، الذي اختلق ذرائع إعلان الحرب حتى يضع حدًّا لقوّة مسينيسا المتنامية والذي كان على وشك احتلال قرطاجة بعد حصاره لمدينة أوروسكوبة سنة 150ق.م.، وأضطرّت قرطاجة بعد سحق القوات التي أرسلتها لصدّ مسينيسا، إلى التوسّط بروما بهدف وضع حدّ للحرب، التي فقدت فيها كامل إقليم أمبوريا، بعد أن فقدت السهول الكبرى( ).

كان هذا الصّدام بين قرطاجة ومسينيسا وراء تدخّل روما في الأحداث الجارية في المنطقة بحجّة خرق قرطاجة لبند من بنود معاهدة زاما 201 ق.م.، التي تخطر عليها إعلان الحرب في إفريقيا وخارجها إلاّ بإذن من الشّعب الرّوماني( )، لكن الثّابت أنّ الحرب البونيقية الثالثة، قد شنّتها روما، لا خوفاً من قرطاجة كما تدّعيه المصادر الرّومانية، بل كانت حرباً هدفها وضع حدّ لنفوذ مسينيسا المتزايد، وقد شعرت روما بخطر سياسته الإفريقية، التي تعرقل مساعي روما التوسعية. تغاضت روما عن الصراع بين مسينيسا وقرطاجة طيلة الفترة الممتدة من 193- 150 ق.م.، لأنّ الصّراع كان يخدم المصالح الرّومانية، وبالتالي يجب أن يستمرّ بين الطّرفين( )، أمّا أن يحسم لصالح طرف من الطرفين، فهذا ما تخشاه روما، ولا ترضاه، ويجب الوقوف في وجهه، لأنّ معنى ذلك، قيام دولة إفريقية قويّة، قد تقف في وجه المصالح الرّومانية، فيكون بذلك تدخّل روما بهدف وضع حدّ لطموح مسينيسا خاصة وأنّها كانت تدرك أنّ قرطاجة ستقع لا محالة بين يدي الملك، إن لم تتدخّل، فكان التّدخّل الرّوماني للوقوف في وجه هذه القوة الجديدة، المتنامية وليس في وجه قرطاجة المنهارة( ).

يتجلّى ممّا سبق أنّ حوادث 150 ق.م.، بين مسينيسا وقرطاجة، كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس – كما يقال- إذ أدركت روما أنّ الصّراع الذي دام أكثر من نصف قرن سيحسم بسيطرة “الملك” على الوضع، وكانت الوسيلة الوحيدة لإبعاد قرطاجة عنه والحيلولة دون جني الملك لثمار اِنتصاراته، هي إزالتها من الوجود، فقرّرت ذلك (Delenda est Carthago)، واختلقت ذريعة التّدخّل، فكانت الحرب البونيقية الثالثة، التي انتقل خلالها مسينيسا إلى عالم الأموات (يناير 148 ق.م.)، وكان مسينيسا قد غضب غضباً شديداً من التّدخّل الرّوماني قبل وفاته بناء على ما يذكره أبيانوس( ): “كان مسينيسا من جهته غضباناً من روما، وقد حزّ في نفسه ان يكون هو من أركع القوة العسكرية القرطاجية، ويهرع الآخرون للحصول على الفضل، وهذا دون أن تكشف له عن نواياها قبل الحملة، مثلما جرت العادة في الحروب الأخرى”. وممّا يبيّن لنا غضب وسخط الملك الشّديدين، ردّه على طلب القنصلين المساعدة العسكرية: “أنّه سيرسل هذه المساعدة عندما يتأكّد بنفسه انّهم في حاجة إليها”، وهو ما اعتبره القنصلان عجرفة وغطرسة من الملك الذي أصبح من الآن فصاعداً محلّ ارتياب، كرجل يحرّكه إحساس معادٍ( ). في هذه الظّروف، توفّي مسينيسا في أوائل يناير 148 ق.م.، بناء على ما يستشفّ من رواية أبيانوس( )، وتؤكّده بردية أوكسير هينك، التي تضع وفاة الملك، أثناء قنصلية كالبرنيوس بيزو وبوستوميوس ألبينوس، التي تبدأ في الأول من يناير 148 ق.م.، ويتوافق مع ما ذكره فاليريوس ماكسيموس من أنّ مانيليوس أحد قناصلة سنة 149 ق.م، كان بروقنصلاً( ).

تحدّثت بعض المصادر عن ترك مسينيسا أمر خلافته لبوبيليوس سكيبيو إيميليانوس:

1)- يذكر هؤلاء المؤرّخون أنّ مسينيسا عندما شعر بالمرض، أرسل يطلب سكيبيو للحضور، لاستشارته في أمر أبنائه والمملكة( ).

2)- يذكر فاليريوس ماكسيموس أنّ مسينيسا، كتب إلى مانيليوس يترجّاه أن يرسل إليه سكيبيو( ).

3)- عندما وصل سكيبيو، كان مسينيسا قد أسلم الروح منذ ثلاثة أيام، وقبل أن يموت، كان قد أوصى أبناءه بالامتثال لقرارات سكيبيو، مهما كانت الطريقة، التي يوزع بها الميراث بينهم( ).

هذه الدّعوة وأمر الاستخلاف تثير العديد من التساؤلات:

أوّلاً: بأيّة صفة يطلب مسينيسا من سكيبيو الحضور لمثل هذا الأمر الهام:

1)- لا روما ترضى بأن يتجاوزها مسينيسا في التّعامل مع أحد مواطنيها (في رتبة قاضي عسكري)، ولا سكيبيو يحمل صفة تؤهّله للتّعامل مع هذه المسألة، دون العودة إلى مجلس الشيوخ (يطلبه مسينيسا، ويذهب في الحال بناء على أبيانوس( ) دون حتى استشاره مسؤوله الأوّل (القنصل قائد الحلمة).

2)- مسينيسا صاحب الباع والتّجربة السياسية الواسعة، يرتكب هذه الهفوة؟

ثانياً: كتب مسينيسا إلى مانيليوس، يترجّاه أن يرسل إليه سكيبيو، أمر يثير أكثر من تساؤل:

1)- لماذا يكتب مسينيسا إلى مانيليوس وهو في سنة 148 ق.م.، كان بروقنصلاً مع وجود قنصلين منتخبين لسنة 148 ق.م()، أحدهما موجود في إفريقيا واستلم مهامه.
2)- لماذا يكتب مسينيسا إلى مانيليوس بالذات، وكان هذا الأخير، قد اشتكى سوء نية مسينيسا إلى مجلس الشيوخ بناءً على ما يذكر زوناراس( )، ممّا يجعل التّيار لا يمرّ بين الطّرفين.
ثالثاً: بخصوص سكيبيو إيميليانوس (185- 129 ق.م.):
1)- المعروف أنّه لم يكن غير قاضي عسكري، لا تسمح له سنّه حتى بالتّرشّح إلى منصب القنصلية سنة 148 ق.م.(**)، فكيف يكلّفه مسينيسا، وبل يطلق له اليد ليتصرّف كما يشاء، دون أن يعود لا إلى مجلس الشّيوخ ولا إلى القنصلين المنتخبين؟!
2)- لماذا لم يختر مسينيسا من كلّ الرّومان غير سكيبيو هذا، وهو أصغر حتى من أبناء مسينيسا، لا مسينيسا ذاته، إذ كان مكوسن أحد ابناء مسينيسا يتجاوز الخمسين من العمر، بينما كان سكيبيو لا يتجاوز السابعة والثلاثين على الأكثر، وهو لا ينتمي إلى هذه العائلة الكبرى في روما إلاّ بالتّبني.
3)- كيف يترك مسينيسا أمر خلافته لروما في هذه الفترة التي اغتاض منها: “من جهته مسينيسا كان غضباناً من روما”( )، وهي التي هرعت لقطف ثمار إنتصاراته علىقرطاجة من ناحية والحيلولة دون جني ثمار انتصاره الأخير، وأدرك الرومان أيضاً موقف مسينيسا هذا وأصبح محلّ ارتياب من طرفهم( ).
4)- يذكر تيتوس ليفيوس( )، أنّ مسينيسا عندما توفي في السن التّسعين، ترك مملكته لأبنائه الثلاثة معاً: مكوسن الأكبر وغلوسن ومصطن-بعل، وأمرهم بأخذ كوسيط في التقسيم بوبيليوس سكيبيو الذي وزّع الحكم بينهم.


ترك مسينيسا العرش إذن بين أبنائه الثلاثة: مكوسن الذي نزع والده الختم من أصبعه، وسلّمه إيّاه( )، وفي ذلك إشارة إلى أولويته في الخلافة، وكان في حياة والده، عادة ما يكلّفه ببعض المهام الإدارية، والدّبلوماسية، بينما كان غلوسن يقود الجيش ويشرف على الشؤون العسكرية، وكانت اهتمامات مصطن-بعل منصبّة على القضاء المناسب لتكوينه في الفلسفة والآداب الإغريقية( )، فكلّف الأوّل بالسّلطة التنفيذية، بينما تولّى الثاني القيادة العسكرية، والثالث أمور القضاء بما يتماشى واهتمامات وميول كلّ منهم، الأمر الذي جعل قزال يتساءل إن لم يكن في العائلة الملكية في نوميديا، أعضاء أكبر سنًّا من أبناء مسينيسا، لهم الحقّ في الحكم وفق التّقاليد النّوميدية؟ وهل كان مسينيسا يرغب في أن يخلفه ابنه الأكبر مكوسن، أم أنّه كان يرغب في توزيع السلطات بينهم( )؟، وهي التّساؤلات، التي لم يجب عنها قزال، الذي تساءل أيضًا إن كان سكيبيو قد عمل برغبة الملك، أم أنّه عمل وفق مقتضيات مصلحة روما( )؟


جرى نقاش كبير حول الاعتبارات التي فرضت هذا “الحكم الثلاثي” على المملكة النوميدية، لكن كومس يرى أنّ هذا النّوع من “الإدارة الجماعية”، يمكن ان تكون مستمدّة من المؤسسات اللّيبية مثلما تبيّنه بعض التّصورات السّياسية( ) وهو ما تؤكّده المعطيات التّالية:
1) تكرار هذا النوع من الحكم على إثر وفاة مكوسن الذي ترك الحكم لابنيه عزربعل وهيمبصال ويوغرطة ابن شقيقه مصطنبعل الذي تبناه لهذا الغرض.
2) نجد نفس هذا النوع من الحكم على إثر وفاة غودا شقيق يوغرطة، حيث تتحدّث المصادر عن حكام ثلاثة: هيرباص، هيمبصال الثاني ومسينيسا الثاني.
3) نجد ثلاثة حكام في المدن النّوميدية وهو حال مكثر، قيرطان ميلة والقل… وهذا بالإضافة إلى اتّفاق البونيقيين والرّومان في إسناد إدارة المدن إلى هيئة ثنائية، يجعلنا نرى في الحكم الثلاثي نظاما وتقليدا خاصا بنوميديا.
قلنا إذن أنّ هذا “النّظام الثلاثي”، تكرر العمل به بعد مكوسن، إذ حاول سالوستيوس (86- 35 ق.م.) أن يسند دورا لسكيبيو في العملية أيضا، إذ تحدّث في معرض حديثه عن ظروف تبني مكوسن ليوغرطة، بعد أن استعرض خصال يوغرطة المتمثلة في حدّة الذكاء والشجاعة، أنّ مكوسن استبشر خيرا بهذه الخصال بادئ الأمر، لكن تقدّمه في السن وصغر ابنيه (عزربعل وهيمبصال)، جعله ينقلب على يوغرطة، الذي أصبح يرى فيه خطرًا على ولديه، وبدأ يفكّر في طريقة تخلّصه منه، فكر أوّلا في اغتياله، لكن خشي أن يتسبّب ذلك في ثورة النوميديين، وأعطته حرب نومانس الفرصة لعرض يوغرطة للخطر، فأرسله على رأس فرقة من النّوميديين( )، عساه يذهب ضحية شجاعته وإقدامه( )، لكن “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”، فقد استطاع يوغرطة بما أظهره من فطنة وتواضع أن يكسب ود وصداقة كثير من الرومان، وكذلك ثناء القائد الروماني سكيبيو إيميليانوس (185 ـ 129 ق.م.)، الذي كلفه بعد هذه الحرب بتبليغ الرسالة التالية إلى مكوسن: “… لقد أظهر يوغرطة في حرب نومانس شجاعة منقطعة النظير، هذه بشرى أزفها إليك، ولا شك أنها ستغمر قلبك بالسعادة، ليوغرطة من الخصال ما جعله عزيزا لدينا، وسنعمل كل ما في وسعنا ليشاطرنا مجلس الشيوخ والشعب الروماني هذا الإحساس، باسم صداقتنا أقدم لك أطيب التهاني، لك في يوغرطة رجل جدير بك، وجدير بجده مسينيسا”( ).


بهذا التسلسل قدم سالوستيوس الأحداث بهدف الوصول إلى أن هذه الرسالة كانت بمثابة إيعاز من سكيبيو الى مكوسن بضرورة تبني يوغرطة واشتراكه في الحكم، إذ أورد سالوستيوس أنه بعد تلقي مكوسن لهذه الرسالة غيّر رأيه في يوغرطة، وفورا تبناه، وأوصى له بالعرش مثله مثل أبنائه: “هذه الرسالة أكدت له الشائعات التي وصلته، إرتبك مكوسن كثيرا من مزايا وتأثير حفيده، غيّر رأيه، وعمل على كسب مودّته بالإحسان اليه، تبناه فورا، وبوصية جعل منه وريثا مثله مثل أبنائه”( ).


لكن إذا حاولنا تحليل ما جاء في هذه الفقرة ، سنجد أن سالوستوس قد وقع في متاهات لا حصر لها :
إذ من المعروف تاريخيا أن مكوسن توفي سنة 118 ق.م، ويفهم من الحديث الذي دار بين الأشقاء الثلاثة بعد الانتهاء من مراسيم الدفن حسب رواية سالوستيوس أن اقتراح يوغرطة بإلغاء كل المراسيم والقرارات التي أصدرها مكوسن في الخمس سنوات السابقة لوفاته، قد أحرز على رضا هيمبصال: “بكل طيب خاطر أجاب هيمبصال، مادام مكوسن تبناك منذ ثلاث سنوات فقط، ليسمح لك بالوصول الى العرش …”( )، معنى هذا أن يكون التبني قد وقع على أبعد تقدير سنة 121 ق.م.، لكن سبق لسالوستيوس أن ذكر أن مكوسن تبنى يوغرطة فور عودته من نومانس، بعد تلقيه رسالة سكيبيو إيميليانوس.


لكن إذا علمنا أن حرب نومانس انتهت بسقوط المدينة بعد حصار طويل سنة 133ق.م.( )، وما دام التبني قد وقع فور عودة يوغرطة من نومانس، فالمفروض أن يكون في ثلاثينيات القرن الثاني ق.م. على الأقل، أي بإثنى عشر سنة تقريبا، وليس بثلاث سنوات قبل وفاة مكوسن، والخطأ هنا واضح عند سالوستيوس، الذي قلص فترة الخمس عشرة سنة التي تفصل بين سقوط نومانس ووفاة مكوسن إلى ثلاث سنوات.


رغم أن قزال( )، يرى ضرورة الفصل هنا بين قرارين لمكوسن بشأن يوغرطة: 1) التبني، 2) تسجيله في الوصية كوريث للعرش، يكون بالتالي أحدهما مؤرخا بسنة 133ق.م.، والآخر بسنة 120 ق.م.، لكن نص سالوستيوس واضح لا يحتاج إلى تأويل، وحتى إذا افترضنا هذا التأويل، فهو لا جدوى منه لسببين:
1) إذا افترضنا أن التبني حدث سنة 133 ق.م.، فهو وحده يمكن يوغرطة من الوصول إلى الحكم وفق التقاليد النّوميدية، وبالتالي لا حاجة للوصية.
2) إذا افترضنا ضرورة هذه الوصية، فيكون أيضا مكوسن لم يتبن يوغرطة نزولا عند رغبة سكيبيو إيميليانوس كما يذهب إلى ذلك جل المؤرخين( )، لأن هذه الوصية ـ كما رأينا ـ تعود إلى سنة 120 ق.م.، وكان سكيبيو إيميليانوس قد توفي منذ تسع سنوات (توفي سنة 129 ق.م.)، واعتمادا على هذا هل نستطيع أن نستبعد ما يذهب إليه جل المؤرخين من أن مكوسن تبنى يوغرطة نزولا عند رغبة سكيبيو، إذ واضح أن مكوسن لم يتبن يوغرطة فور عودته من نومانس، وإنّما تبناه فعلا عندما اشتد به المرض، وشعر بدنو أجله، وهو ما أشار إليه سالوستيوس بقوله: “بضع سنوات بعد ذلك، أضنته السنين والمرض، وشعر بقرب أجله…”.


في خضم كل هذا، هل يمكننا التحدث عن إصلاح إداري قام به مسينيسا ، وأراد مكوسن الاحتفاظ به؟
لا نستطيع الجزم في هذا الموضوع، لكن وجود هذا النوع من الحكم الثلاثي “في المدن النوميدية – كما قلنا سابقا- وكذا اِتّفاق البونيقيين والرومان في إسناد إدارة المدن إلى هيئة ثنائية، يجعلنا نرى في هذا الحكم الثلاثي نظاما وتقليدا خاصا بنوميديا، وبالتالي لا يد فيه لا لسكيبيو ولا لغيره، قد تكون التجربة الصعبة التي مر بها مسينيسا على إثر وفاة والده سنة 206 ق.م.، ثم عمه الذي خلف والده في نفس السنة ثم ابن عمه، نتيجة تطبيق قاعدة الأكبر سنا في العائلة الملكية دون اِشتراط الانحدار المباشر من الملك المتوفي، وراء لجوء مسينيسا لهذا الإصلاح، حتى يجنب أبناءه والمملكة هذه الهزات.

الأستاذ الدكتور محمد الهادي حارش
قسم التاريخ/ جامعة الجزائر 2
hareche@live.fr

Exit mobile version