أقلام حرة

سيكولوجية بعض الأمازيغ المستعربين مع الراية الأمازيغية

 

أول ردة فعل للأمازيغي المعرب ذهنيا من الراية الأمازيغية هي القول أنها راية حديثة، صنعت في سبعينيات القرن الماضي فقط رغم أنه أمر معلوم لكل المهتمين بالتاريخ و مدون في أدبيات الحركة الأمازيغية بمختلف اللغات ولا أحد قال أنها راية ماسينيسا أو يوغرطة!

لكن السؤال الجوهري هنا هو: ما الذي جعل العقل الأمازيغي المعرب يفكر بهذا المنطق ؟ لماذا ينزعج من كونها حديثة وليست عتيقة ؟

هناك ثلاثة عوامل تتحكم في طريقة تفكير الإنسان الشمال افريقي البسيط، الدين ،السياسة الرسمية وأيديولوجية الجماعة.

الأول هو أن العقل الشمال إفريقي المعرب مقيد بمعادلة قديمة وهي أن معيار أي معلومة او فكرة جديدة عنده هو الدين، أي البحث عنها في الدين (القرآن والسنة ) فإن كانت موجودة فأهلا وسهلا وإن كانت مُحدثة فهي بدعة وكل بدعة ضلالة، ولابد من محاربتها لحماية الدين منها، وهذا المنطق السقيم هو من كبح الفكر والرغبة والتجديد عند الأمة الاسلامية حتى أسكنها الحضيض.

لا ريب أن البعض سينتفظ ضد هذا الطرح وسيتحجج بالأسطوانة القديمة التي يكررونها دائما عن العصر الذهبي للأمة الاسلامية الغني بالتجديد والتفكير، هذا بسبب سطحية تفكيرهم غير أن التاريخ الذي تم توثيقه يقول أن رواد هذا العصر الذهبي كانوا من الذين تحرروا من المعادلة أما كهنة معبدها فقد كانوا يحاربون ويكفرون كل من يحاول الأتيان بالجديد فكان العلم بالنسبة لهم علمان، علم ديني شرعي نافع مرغوب ، وعلم دنيوي شيطاني منبوذ فاسد ضار ، فعلماء الطب و الصيدلة والبصريات والفلسفة… عدو فاحذروه، وعلماؤها زنادقة و كفرة فجرة ، كما قال ابن رجب في إحدى كتبه : ” ..فالفلسفة هي منبع الضلالة ، ومنجم الباطل ، قد عشّش به الشيطان وضرب فيه ،قباب حرّمه جميع المحققين من العلماء ، ومَنْ تعلمه وأدمن النظر فيه لم يسلم من الإلحاد ، ودين أهل هذا العلم هو الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، أبطلوا المنقول ، وخالفوا المعقول ، وأضلوا الأمم “

نفس التفكير عند شيخ الاسلام ابن تيمية وما ادراك من هو يتحدث عن علم الكيمياء والفلك و يقول : “…وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق ، وهو باطل في العقل ، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فهو سبحانه لم يخلق شيئاً يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق .. وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً ، ولهذا لا يظهرون للناس إذا عاملوهم إن هذا من الكيمياء … فجماهير من يطلب الكيمياء لا يصل إلى المصنوع الذي هو مغشوش باطل طبعاً ، محرم شرعاً بل هم يطلبون الباطل الحرام … ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء ، ولا من علماء الدين ،ولا من مشايخ المسلمين ، ولا من الصحابة ،ولا من التابعيين لهم بإحسان..”

ويقول أيضا ” …فاعلم أن جميع علماء الفَلَكِ المسلمين الذين يفاخر بهم المُحَدثون –فيما أعلم – إنما هم منجمون كهان ،كالخوارزمي وابن البناء ،والطوسي ، وآل شاكر، والمجريطي وغيرهم – عافانا الله وإياكم مما ابتلاهم به – “.
و قال كذلك عن العالم الخوارزمي الغني عن التعريف أن ذلك العلم (الخوارزمي ) بأنه وإن كان صحيحاً إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره .

وقال الامام الشافعي عن الفلاسفة حكما : ” حُكْمِي فِي أَصْحَابِ الْكَلامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الإِبِلِ ، وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَخَذَ فِي الْكَلامِ “.

وقيل عن العالم الامازيغي عباس بن فرناس الذي سمت الوكالة الدولية ناسا فوهة في الفضاء باسمه تكريما لأعماله الخالدة وهو أول طيار في تاريخ البشرية : “..فيلسوف ، موسيقي ، مغنٍ ، منجّم ، نسب إليه السحر والكيمياء ، وكثر عليه الطعن في دينه ، واتهم في عقيدته ، وكان بالإضافة إلى ذلك شاعراً بذيئاً في شعره مولعاً بالغناء والموسيقى ..”.
وقيل في الكندي يعقوب بن اسحاق : ” فيلسوف ، من أوائل الفلاسفة الإسلاميين ، منجّم ضال ، متهم في دينه كإخوانه الفلاسفة ، بلغ من ضلاله أنه حاول معارضة القرآن بكلامه ” .

فناك رفض واضح اذا من خلال هذه الامثلة المقتبسة لكل ما هو جديد لأنه لم يكن من عمل الانبياء والصحابة والسلف بالنسبة لهم !

أما العامل الثاني وهو أن المدرسة الرسمية لدول المنطقة التي فرضت مجانية التعليم كانت لخلق الإنسان المناضل لإيديولوجية النظام القائم بدل الإنسان المواطن، فالصحيح الذي لا ريب فيه هو ما تقوله كتب المدارس وإعلام السلطة فقط، غير ذلك مجرد مؤامرة خارجية! فقبل أشهر قليلة فقط من موعد الاعلان الرسمي لترسيم تمازيغت في 2016 كانت قنوات الاعلام تستظيف أعضاء لحزب الأفلان حول قضية الهوية وكانوا يتفاخرون في إختزال تاريخ وثقافة سليلة دولة هيرباس، سيفاكس، ماسينيسا و يوغرطة… في المكون العربي الاسلامي وحده لا شريك له ويحذرون من “فتنة الأمازيغية” . لكن بعد الترسيم، نفس الأشخاص، بل حتى زعيم الحزب عمار سعيداني ادعى أن حزبه هو من رسّم الأمازيغية !

العامل الثالث هو أن المجتمع منقسم على جماعة أيديولوجية تتقاسم نفس التوجه الذي صنع وعيها وطريقة تفكيرها، فالجزائري المعرب الشيوعي التوجه/ الإيديولوجية لا يعادي الأمازيغية كما يعاديها الجزائري المعرب الباديسي التوجه، فالأول تربى على فكر يساري مناهظ للعامل الأول والثاني ، والثاني (الباديسي) تربى على نغمة ” شعب الجزائري مسلم والى العروبة ينتسب” للشيخ عبد الحميد بن باديس، وعلى أفكار خليفته البشر الابراهيمي الذي وصف الأمازيغية في سنة 1942 وهي آية من آيات الله في الكون، عبر مقال له ” بالنغمة السمجة التي تسك الآذان وبنوبات الإستعمار وبضرة اللغة العربية… ” .

غير أن التفكير السليم في هذا الموضوع مبني على التسائلات التالية : كيف يمكن لراية رمزية للتعبير عن الخصوصية الأمازيغية يحملها الملايين في دول مختلفة لشمال افريقيا، ليس فيها أي فكرة تُهدد وجودي ، وهي أيضا راية رمزية للتعريف ببعد أصيل في المنطقة قمنا نحن الأمازيغ المستعربين بتهميشه والتنكر له لأن الكثير منا أراد أن يكون على هوية عربية اسلامية فقط دون غيرها ؟ هل هناك من فرض علي حمل هذه الراية غصبا عن ارادتي ؟ هل طالبوا بتعويض الراية الوطنية الرسمية بها؟

كيف يمكن أن يضرني مواطنون من الجنوب أو الجلفة لو أنهم حملوا راية جديدة اتفقوا عليها، يعتزون بها، ويعتبرونها رمزا لثقافتهم أو خصوصيتهم ولا تحمل أفكار معادية لأحد ؟

ما الذي يزعجني أنا لما أرى مواطنين يحملون الراية الوطنية في يد والراية الفلسطينية في يد أخرى للتعبير عن تضامنهم مع شعب مضطهد ؟

لماذا سيزعجني قبائلي من منطقة القبايل يحمل راية جديدة لحركة جديدة (الماك) وأنا أعلم أنه لم يولد بذلك الفكر الانفصالي بل تحول اليه مضطرا بعد أن شعر أنه لا يملك من الجزائر “العربية الاسلامية” حسب دستورها، شيئ، وأن التعليم بالعربية والفرنسية فقط دون غيرها جعل هويته وثقافته ولغته مهددة بالانقراض، وأن رفض البقية لطريقة تفكيره ووجوده ضمنهم هو ما خلق تلك الهوّة . وأن حل المشاكل الهوياتية في الجزائر بتأسيس جزائر لكل الجزائريين بثقافة التعايش المشترك ودولة القانون والمؤسسات، لإخماد نار الأفكار الانفصالية والتمردات والثورات التي تمر على وطننا كل عقد من الزمن : 1963، 1980، 1988، 1992، 2001، 2011، 2019 !

أما ردة الفعل الثاني من الراية الأمازيغية هي في قولهم أنها لم تكن راية الحرب التحريرية !

فكثرا ما صدعوننا بسؤال: هل كان عميروش وسي الحواس يرفعان راية تمازغا خلال الحرب التحريرية؟ لكن الجواب على سؤالهم هذا هو بسؤال آخر حول إن كان الأمير عبد القادر وبن زعموم و الحاج أحمد باي وبوبغلة وثوار الزعاطشة… يرفعون الراية الوطنية خلال ثوراتهم !؟

فعليهم إذن أن يسقطوا نفس المنطق القائل بأن راية تمازغا صنعت في فرنسا وليس في الجزائر، على الراية الوطنية التي صنعت في الجزائر الفرنسية من طرف الفرنسية إميلي بوسكوانت Émilie Busquant التي شكل زوجها جيش بلونيس وحارب الثورة الجزائرية وكاد أن يجهضها لو لا مقاومة الولاية الثالثة له وطرد فلوله الى الصحراء .

ونفس منطقهم لابد من إسقاطه على فكرة الإستقلال التي خرجت من رحم نجم شمال إفريقيا 1926 الذي تأسس بباريس وكذلك حزب الشعب PPA الذي ولد بمدينة “نانتير” الفرنسية سنة 1937.

وإذا كانت رموز الراية الأمازيغية وثنية أو جاهلية… فكذلك هي رموز الراية الوطنية التي كان الهلال من معبودات أسلافنا في شمال افريقيا وفي الحضارات القديمة ولازالت آثار شواهد قبور إنسان الحقبة النوميدية تحمل رمز الهلال ونفس الشيئ للنجمة .

وإذا كانت من صنع الفرنسي اليهودي الديانة وليس الصهيوني الإيديولوجيا، جاك بينيت، كما يزعمون كذبا، فقط لأنه كان صديق بوسعود أعراب، وكان من المثققين المهتمين بالثقافة الأمازيغية مثل الكثير من الباحثين الفرنسيين المستمزغين، ولإنه من منطقة البروطن التي لازالت تحارب هي كذلك في النظام اليعقوبي الفرنسي (أحادية اللغة والمركزية) الذي همش ثقتفتها المحلية، وهذا النظام السياسي هو المطبق في الجزائر المستقلة إقتداءا بنموذج الدولة الوطنية الفرنسي ، فمن المنطق اذا إحترام وتخليد سيرة جاك بينيت الذي صنع لنا ،كما تزعمون كذبا ، راية وحدتنا جميعا بشمال افريقيا بعدما فرقتنا الحدود السياسية التي وضعتها فرنسا الإستعمارية!

فالراية إذا يا بني جربوع لا تقاس بتاريخ صدورها ولا بمن خلقها أو حملها بل بعدد الناس الذين تقبلوها ورفعوها فهي فكرة يلقيها صاحبها الى الناس ولا يجبرهم عليها فتحدد قيمة الراية بعدد الأفراد الذين تقبلوا وأعتنقوا تلك الفكرة حتى ولو كانت سيئة أو لم تعجب البعض .

فالراية الوطنية ورغم التاريخ الأسود لزوج مصممته، مصالي الحاج، في آواخر دربه إلا أن الشعب الجزائري كله، بما فيه أبطال ثورته، تقبل فكرة الراية المعبرة عن الذات الجزائرية في وجه المستدمر الفرنسي الذي سعى الى إدماج وصهر الكينونة الجزائرية في الكينونة الفرنسية سياسيا، كذلك الأمر بالنسبة للراية تمازغا التي تحمل فكرة توحيد شعوب ودول شمال إفريقيا، التعبير عن حرية تلك الشعوب من النُظم الديكتاتورية الشمولية، وخاصة التعبير اللاشعوري عن الذات الأمازيغية المهمشة والممنوعة وهو أكبر سبب جعل شرائح كبيرة من أمازيغ شمال افريقيا يحملون هذه الراية في كل المسيرات الشعبية المطالبة بالكرامة والحقوق المشروعة من النُظم الشمولية في هذه الدول.

فراية تمازغا إذا هي فكرة أطلقها نشطاء أمازيغ، من بينهم مجاهدين في حرب التحرير، من المهجر الى الشارع ،دون أي خلفية لفرضها غصبا على الجميع، ومهما شئنا أم أبينا، ورغم أنف العالم، فقد حققت إنتشارا واسعا من سيوة بمحافظة مطروح بمصر شرقا الى غاية جزر الكناري في المحيط الأطلسي غربا والى تخوم الصحراء الكبرى جنوبا ، جمعت بفكرتها الأمازيغي المسلم المالكي والإيباضي في كل من آث مزاب ونفوسة ، والأمازيغي المسيحي في جزر الكناري ومنطقة القبايل والأمازيغي اليهودي في جزيرة جربة بتونس ، واللاديني والملحد … الناطق بالمتغيرات المختلفة لتمازيغت أو العامية الهجينة ، الإسباني في جزر الكناري أو المفرنس … صاحب البشرة البيضاء بالشمال أو السمراء والسوداء في الجنوب . وهذا التنوع لم تستطع راية (اتحاد دول المغرب العربي) الذي مات قبل ولادته و لا حتى الديانات الإبراهمية، بما فيها الإسلام، جمعها وتوحيدها في راية أو فكرة واحدة .

ونختم بالقول أن الأمازيغي المستعرب وكذلك النظام يستعمل مؤسسات الدولة بما فيها الدستور ليعرف بعروبته وعروبة البلد بينما الأمازيغي المحافظ على لغته يستعمل الراية الأمازيغية ليعرف ويعبر عن أمازيغيته وقد ستزول الحاجة الى رفع هذه الراية يوم ستكون لهويته وخصوصيته نفس المكانة التي تحضى بها العربية والعروبة في مؤسسات الدولة. 

 

بقلم الأستاذ مصطفى صامت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!