أقلام حرة

تخوين القوميين العرب للملك ماسينيسا في ميزان الحقيقة التاريخة و الأيديولوجية السياسية

      منذ سنوات ونحن نسمع لبعض الغوغائيين الفاقدين للبوصلة يجترون كلام بعض أقلام التيار العروبي بالجزائر بأن الملك الأمازيغي ماسينيسا “خائن”َ لكن إلى غاية اليوم لم يفصحوا لنا عن من الذي وقعت عليه الخيانة من طرف ماسينيسا ! هل هي قبيلة قريش أو يثرب أم أنه خان بنوا هلال وسليم الذين غزو شمال افريقيا في 1050 م ؟ ،  لا أحد منهم أجاب عن السؤال بعد ، ولن يجيب عنه أحد ، فقط سكررون نفس الكلام ” ماسينيسا خائن ” !! المهم هو تكرار لخزعبلات من قبيل أن ماسنيسا هو من أدخل الرومان الى شمال إفريقيا رغم أن الحقيقة التاريخية تقول أن القرطاجيين هم من ادخل الرومان الى افريقيا بعد أن نقل الرومان حربهم ضد قرطاج الى افريقيا كرد فعل على دخول حنبعل القرطاجي الى إيطاليا، فقد كانت خطة حربية من القائد الروماني سيبون الافريقي لاستدراج جيوش حنيبعل الى افريقيا وإبعاد خطرها عن روما ، فحتى زعماء قرطاج بعد هزيمتهم لم يقولوا ان ماسنيسا هو من سبب لهم تلك الحرب بل أرسل القرطاجيون وفدا من زعمائهم إلى معسكر الرومان في تونس وترجّوا القائد الروماني سيبيون وقبّلوا أقدامه (وهي عادة يقول المؤرخ اقزال أنهم جاءوا بها من الشرق) وبالغوا في التذلّل له قائلين أنّ هانيبال هو من تسبب بتلك الحرب وأوصل الشعبين الى تلك العداوة ( Tite-Live, XXX, 16, 1-7)

      فماسينيسا دخل شمال افريقيا في سنة 206 ق.م بعد سماعه بوفاة والده قايا ووجد القرطاجيين الذين جلب لهم الانتصارات في اسبانيا لما كان يقاتل الى جانبهم ضد الرومان قد تحالفوا مع سيفاكس ملك المسيسيل الذي استولى على مملكة والده قايا وأن سيفاكس قد تنازل على بعض أراضي مملكة ماسينيسا للقرطاجين فدخل في حروب ضد التحالف القرطاجي والمسيسيلي (سيفاكس) ، فأغتنم فرصة وجود الرومان ،كطرف معادي لعدوه، في البر الافريقي فتحالف معهم لاسترجاع مملكته . وهو ما كان سيفعله أي سياسي في مكان ماسينيسا يدرك ان ما يجمع ويوحد بين الحلفاء وحتى الأعداء هي المصلحة المشتركة ، فهل أصبح ماسينيسا خائن فقط لأن قرطاح وسيفاكس دفعوه للتحالف مع قوى أخرى ؟ إذا كان هذا هو المقصود بتخوين ماسينيسا فلما لا يطلقون نفس الحكم على سيفاكس الذي كان اول حلفاء الرومان في المنطقة حيث اتصل القائد الروماني سطاطوريوس(Statorius) بسيفاكس و تحالف معه في 213 ق.م، (Gsell(S.), H.A.A.N., T. III, p. 182) ، وفي تلك الفترة الزمنية كان ماسينيسا حليف قرطاج وكان يقاتل الرومان في اسبانيا معهم ، ثم لما لم يطلقوا نفس الحكم بالخيانة كذلك على الأولغارشية الحاكمة في قرطاج والتي تحالفت هي الاخرى مع الرومان كلما اقتضت مصلحتها في ذلك، فقد تحالفت مع الرومان ضد الإغريقي بيروس Pyrrhus قبيل الحرب البونيقية الاولى (تاريخ الجزائر في القديم والحديث . محمد الميلي .الجزائر 1976. ص 150) كما تحالفت مع الرومان التي أمدتها بالمدد والمؤنة في حربها لإخماد ثورة جندها المأجور بقيادة الليبي ماطو ، بعد ان تمرد عليها هذا الجيش لما رفضت قرطاج دفع راتبه ؟.

     ماسنيسا تحالف مع الرومان ضد قرطاج لانه فهم أن الأولغارشية الحاكمة في قرطاج هي سرطان شمال افريقيا الذي يجب إقتلاعه بأي وسيلة فهم عصابة من المركانتية حكمت قرطاج وجعلت مصلحتها التجارية فوق مصلحة البلاد والعباد ، وتاريخهم كله خيانة وزرع للفتنة بين الأمازيغ في شمال افريقيا ، فقد تحالفوا مع الرومان بعدما كانوا أعدائهم من اجل إخماد ثورة الجند المأجور (241-237 ق.م ) ، وتحالفوا مع سيفاكس وزوجوه خطيبة ماسنيسا صونيزب دون علمه لما كان يقاتل الرومان في اسبانيا لصالحهم (القرطاجيين) ومقابل كل الانتصارات التي جلبها لهم فقد كانت مكافأة القرطاجيين له ان حاولوا التخلص منه قبل أن يكتشف خيانتهم له في افريقيا ، حيث ارسل القائد القرطاجي باسبانيا سرية فرسان لمرافقة ماسينيسا في العودة إلى مملكة والده وأعطى أمرا لهم باغتياله في الطريق، لكن ماسنيسا نجى من المؤامرة ( Appien Lib., 10 ) ، كذلك قاموا بأسر والدته ،حيث قام ماسنيسا بإطلاق سراحها في عملية تبادل الرهائن بعد الحرب فاستبدالها بالقائد القرطاجي حانون الذي وقع في الاسر ( Appien Lib.,14 ) .

     ليس هذا فقط بل حتى القائد حنيبعل الذي أفنى حياته لخدمة أولغارشية قرطاج لم يسلم من خبثها وخيانتها له ، فقد خانوه لما رفضوا طلبه بإمداده بالجنود والمؤونة لما كان يحارب الرومان في أرضهم سنة 207 ق.م ، والثانية بعد معركة زاما 202 ق.م حيث حاولت أوليغارشية قرطاج تسليمه للرومان للتخلص من تمرده وتحريضه الناس على روما ومطالبته بالحرب التي لا تخدم المصالح التجارية للمركنتية الحاكمة بقرطاج ، وقد علم حنبعل بنية قادته في تسليمه لروما لتجنب حرب أخرى ففر من قبضتهم وهرب الى سوريا ، ورغم ذلك لم تنفك وشايات حكام قرطاج له الى روما تلاحقه حيثما حل وأرتحل ، حتى تجرع السم وأنهي حياته لما عزم” بروزياس” ملك “بوتينا” على تسليمه للرومان سنة 184 ق.م (شارل أندري جوليان , تاريخ إفريقيا الشمالية .الدار التونسية للنشر .1969 .ص 139) .

     فحتى مدينة أوتيكا (Utica) وهيبودياريتوس (Hippo diarrhytus) التي كانت تحكمها جالية فينيقية إنظمت الى ثورة الجند المأجور ضد قرطاج (241-237 ق.م ) حيث قام الأوتيكيون بإبادة الحامية القرطاجية في مدينتهم والمتكونة من خمسمائة رجل وقذفوا بجثثهم في خندق. (S. Gsell, op. cit., pp. 116-117) وهو أكبر دليل على أن اولغارشية قرطاج كانت منبوذة حتى من الجالية البونية الموجودة في بقيت المدن الافريقية . فما بالك بالأمازيغ والنوميد الذي ذاقو ذرعا من مكرهم وخبثهم على مر الزمن .

     انتهت حرب قرطاج مع روما بإنتصار الاخيرة التي نصبت حامية من الجند في قرطاج وعادت بقيت الجيوش الى روما ، وقد عاد السلام الى افريقيا ، توفي ماسينيسا سنة 148 ق.م في سن التسعين وحكم شمال افريقيا من ليبيا الى غاية نهر ملوية غربا لستون سنة حقق فيها وحدة شمال افريقيا ولم يعرف شعبه أمنا وإستقرارا قبل عهده ذلك ثم حكم إبنه مُكسان لثلاثين سنة كلها سلام وأمن كان ماسنيسا وإبنه من بعده قد سكو النقود بإسمهم وليس بإسم جمهورية روما ولم يذكر التاريخ أن ماسنيسا وخليفته من بعده كانا يدفعان الجزية لروما وهذه كلها من آيات الاستقلال للذين يروجون ان ماسينيسا كان خاضع لروما ، لم تقم الحرب بين الأمازيغ والرومان ولم يتدخل الرومان في ارض شمال افريقيا الا في عهد يوغرطة . أي أكثر من قرن من حكم ماسينيسا .

     وفي الاخير يبقى ماسينيسا من أكبر ملوك شمال افريقيا وأحد رموزها وما تكالب المؤرخين الفرنسيين عليه إلا لأنه صاحب فكرة القومية الافريقية بشعاره الخالد ” افريقيا للأفارقة ” ، إذ نقل لنا المؤرج جوليان عن المؤرخ الروماني تيت ليف (Titus Livius) أن ماسينيسا : ” كان يصرح فيما يتعلق بالأجانب سواء كانوا فينيقيين أو رومانيين أن افريقية يجب أن تكون للافريقين . وهي نظرية كان من شأنها أن تسحر رعاياه البربر الميالين بطبعهم إلى كره الأجانب . وكان لابد لتجسيدهم هذه النظرية من الاستيلاء على الأراضي البونيقية وخاصة قرطاج عاصمة بلاد البربر” (شارل أندري جوليان , نفس المرجع السابق ، صفحة 137 ) وهذه النزعة القومية التي عبر عنها ماسنيسا هي ما تَخَوَفَ الفرنسيين في الحقبة الكولونيالية من إنتقالها الى أحفاده كما أنه ليس في صالحهم أمتلاك “الانديجان” لملوك عِظام بَعثوا بالحضارة والاستقرار والتمدن والرُقي لشعبهم وهم من كانوا يصفون الجزائريين بالبدائيين والمتخلفين الذين جاءت فرنسا لتمدينهم . ولا ننسى أن عقدة الفرنسيين من الجزائريين كانت في مقاومتهم وصمودهم أمام الإمبراطورية الرومانية عكس أجدادهم الغولوا الذين لم يحققوا ذلك و ذابوا وأنصهروا في الحضارة الرومانية اللاتينية ,كما ليس في صالح العربان (القوميين العرب ) الذين درسونا أن العرب هم من أدخل لنا التاريخ والحضارة في القرن السابع لإفريقيا وأن ما قبل ذلك جاهلية وظلام وبهتان ، فلم يكفوا على الترويج لفكرة تخوين أحد رموز الأمازيغ فقط لأنه تحالف مع عدو خارجي لإسقاط عدو داخلي وافد يحسب على منطقة مشرقية , ولو لم يكونوا من المنافقين الافاكين فذلك نفسه ما فعله الامير عبد القادر الذي يقدسونه مع فرنسا حيث نقل لنا المؤرخ روبير أجيرون أن الامير تحالف مع القائد الفرنسي ديميشال وسَلَحه هذا الاخير ليحارب الامير أعدائه من الكراغلة وقبائل المخزن في الغرب الجزائري وهذا نص كلامه لعلهم يفقهون : “ في حين كان قد وقع معاهدة يتعرف فيها بسيادة ” أمير المؤمين”،ويمنحه فيها امتيازا تجاريا في آرزيف ويتعهد بمساعدته، حتى لقد قدم ديميشيل لحليفه أسلحة. وبفضله أحرز عبد القادر نصرا على ميليشيات الباي السابقة في معركة مهراز (12 جويلية 1834 ) ” (تاريخ الجزائر المعاصر ، شارل روبير أجيرون ، صفحة  24)

     وصفوة القول أن ماسينيسا كان حليف قرطاج يحارب الرومان في اسبانيا ولما خدعوه في افريقيا وتحالفوا مع منافسه سيفاكس وإستولوا على مملكة والده في غيابه أصبح كل من القرطاجيين وسيفاكس أعداء له فتحالف مع عدوه السابق (الرومان) الذي وحدته معهم المصلحة المشتركة لإستعادة عرشه من اعدائه ، فمسنيسا لم يحارب شعبه بل حررهم من جيوش سيفاكس بدليل أن المؤرخين نقلوا لنا أن الماسليون (سكان مملكة ماسيليا ) قد خرجوا كلهم يحتفلون لما سمعوا بعودة ولي عهدهم ماسينيسا الى مملكته محررا لهم بل وثار الماسيليون ضد الحاميات العسكرية التي أقامها سيفاكس في مملكتهم وطردوا جنوده (Polybe XV, 4, 4) وهذا أكبر دليل على أن ماسينسا لم يحارب شعبه المسيلي بل حررهم من المسيسيل الذين كانوا يرونهم أعداء مثل القرطاجيين رغم أن كليهما شعب أمازيغي ،فليس من الحكمة أن نقيس أخلاق وثقافة ذلك الزمان بأخلاق وثقافة اليوم . فالماسليون أدرى بشعاب ماسيليا(مملكة ماسينيسا) وليس التعربيون الذين يدعون انهم عرب جاؤوا الى شمال افريقيا في القرن السابع للميلاد  أو العاشر ورغم ذلك يحشرون أنوفهم في تاريخ وقع في القرن الثاني قبل الميلاد وفي حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل!

بقلم الأستاذ الباحث : مصطفى صامت 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!