اِنتفاضة الملك الأمازيغي جيلدون (397- 398م) ضد الإحتلال الروماني

 الملك الأمازيغي جيلدون :

    جيلدون من مواليد حوالي 340م، شارك إلى جانب ثيودوز في إخماد ثورة شقيقه فيرموس (372- 375م)، بعد ذلك واصل في الغالب الخدمة في الجيش الرّوماني، وتدرّج فيه، حتّى اِرتقى سنة 385م إلى منصب «كونت إفريقية»(Comes Africae)، القائد الأعلى لكلّ القوّات الرّومانية في إفريقيا، مع الحصول على مصاف النّبالة الرّسمية «الرّجل المتميّز»(Virspectabilis).


    رغم موقف جيلدون، الموالي لتمرّد ماكسيموس، أثناء اِغتصابه السّلطة سنة (387م)، لكن يبدو أنّه لم يؤثّر كثيرًا على علاقته بالإمبراطورية، وهو الأمر نفسه مع أوجان (Eugene) سنة 392م، وذلك ربّما لحاجة ثيودوز في تلك الظّروف إلى رجل قوي في إفريقيا، لكن بالنّسبة لجيلدون يمكننا اِعتبار ذلك بمثابة جسّ النّبض، اِنتهى به إلى تقليص الحصّة السّنوية من «الأنونة» أوّلاً قبل توقيفها نهائيًّا.

    عرفنا أنّه، بعد وفاة ثيودوز سنة 395م، وتقسيم الإمبراطورية، قلّص جيلدون سنة 396م، من كميّة «القمح» التي تشحن إلى روما، قبل توقيفها نهائيًّا سنة 397م، الأمر الذي تسبّب في القطيعة مع اِمبراطورية الغرب.
كان توقيف «التّموين» سببًا في إعلان جيلدون «عدوًّا للشّعب الرّوماني»، وإعلان الحرب ضدّه، فقام ستيليكون- الوصي على الإمبراطور هنوريوس- بإرسال قوّات رومانية، يقدّر عددها بخمسة آلاف (5000) مقاتل تحت قيادة ماسكزال (Mascezel)، النّاقم علىشقيقه جيلدون، بسبب قتله اِبنيه.


    لا يمكن أن نصف اِنتصار خمسة آلاف مقاتل على سبعين ألفاً، اِنتصار ماسكزال «المسيحي، التّقي الورع» على جيلدون «الوثني، المنتفض ضدّ روما إلاّ «بالمعجزة»، معجزة «القدّيس أمبرواز»، الذي ضمن بدعواته النّصر لماسكزال وسرعة معركة أرداليو ربيع 398م هكذا!
لم يشفع لجيلدون الفرار من ميدان المعركة (ضواحي تبسة)، واِمتطاء السّفينة في ميناء طبرقة، قاصدًا القسطنطينية – بلا شك-، لكن الرّياح، أبت إلاّ أن تعيد السّفينة إلى ميناء إقلاعها، حيث قتل جيلدون أو اِنتحر.


بهذه السّهولة والبساطة، قدّمت لنا مصادرنا هذه الاِنتفاضة، التي تعدّ بمثابة «لغز» يطرح العديد من التّساؤلات حول جوانب شتّى:
أوّلًا: حول شخص جيلدون، الذي كان قبل ذلك قد وقف ضدّ شقيفه «فيرموس» في ثورته على روما (372- 375م)، ممّا يجعلنا نتساءل عن هدفه من هذه الاِنتفاضة، وهو الذي اِرتقى في المناصب العسكرية، حتى وصل منصب «الكونت»، أعلى منصب قيادة في الجيش، يتولّى قيادة كلّ القوّات الرّومانية المرابطة في شمال إفريقيا، وما هي الأسباب التي دفعته إلى الاِنتفاضة، وقد أصبح يمتلك من الثّروات، ما جعل السّلطات الرّومانية، تكوّن لجنة خاصّة لإدارة ممتلكاته بعد هزيمته ومصادرة أملاكه.
ثانيًا: التّساؤل أيضاً عن مصادرنا لهذه «الاِنتفاضة» ومواقفها، «فكلوديان» (370- 404م)، المعاصر للأحداث، والتي كانت الاِنتفاضة موضوعه الأساسي في «حرب جيلدون»(DE Bello Gildonico)، وعاد لها في مدح ستيليكون، وفي أعمال أخرى، ما يجعله المصدر الأساسي لهذه «الحرب» هو شاعر بلاط، معروف بولائه اللاّمحدود لوليّ نعمته ستيلكيون، الوصيّ على الإمبراطور الشّاب هنوريوس (11 سنة)، وكان له أكثر من سبب لسقم جيلدون.


أمّا المنافح عن الكنيسة الرّسمية، الإسباني باولوس أوروسيوس (Histoire adversuspanagos)، الذي قدّم لنا رواية للأحداث بعد حوالي عشرين سنة من وقوعها (417م)، تختلف عن رواية كلوديان، وإن لم تكن له أسباب الاِهتمام بـ «جيلدون»، فهو كان موجودًا عندئذ عند القدّيس أغسطينوس في هيبو- ريجيوس (عنابة)، ومعروف موقف جيلدون في دعمه للدوناتيين (أوبتا الثاموقادي) كما نعرف موقف أغسطينوس من هذه «النّحلة»، التي يغلب فيها العنصر «الوطني»، وبالتّالي لا نستبعد أن تكون رواية أوروسيوس، تمثّل رؤية الكنيسة الكاثوليكية الرّسمية، إن لم تكن رؤية القدّيس أغسطينوس نفسه، الذي يصف «أوبتا» بالتّابع لجيلدون.


والرّواية الثّالثة للقدّيس زوزيم (Zosime)، الورع، المولع بالمسيحيّة، المتوفّي سنة 418م في كتابه (Histoire nouvelle V, 11).
هذه المصادر، ذات الاِتّجاه الواحد، المعادي تمامًا لجيلدون، والتي تصفه بشتّى الأوصاف، خاصّة كلوديان الذي له أكثر من سبب للحنق على جيلدون الذي ينعته بماوروس (Maurus)وتيرانوس (الطّاغية Tyranus)، الكلمة الأولى مرادفة لبارباروس مع مفهوم مُحَقِر، فهو البارباري غير المرومن، الغريب عن الحضارة مع صفات الوحشيّة الكثيرة، وهو طاغية ماورى بالخصوص وهو ما يتنافى تمامًا مع الواقع التّاريخي، إذ اندمجت عائلة جيلدون بالكامل تقريبًا في المؤسّسة الرّومانية، وهل يعقل أن يصل إلى منصب الكونت، ويحصل على النّبالة في مصاف «الرّجل المتميّز»، من هو غير «مرومَن»؟ ممّا يبيّن شدّة حنق كلوديان وذلك: أنّ جيلدون، كاد أن يتسبّب في حرب أهلية إذ يكون جيلدون حسبه قد أجّج باِنتفاضته العدوان بين شرق الإمبراطورية وغربها، وكان فضلا عن ذلك قد هدّد «روما» بالمجاعة وخاصّة، أنّ جيلدون قد عكّر مسار ستيليكون الذي كان كلوديان يتفانى في خدمته، وهو وليُّ نعمته.


لم يكتف كلوديان بالتّحامل على جيلدون، فحسب، بل حتّى الشّعوب، التي يدّعي وقوفها معه:
النّاسامونس (Nassamons)، هذا الشّعب الضّارب عند السّرت الكبرى والنوبيون والجرامانت والأتولول.
أوّل تساؤل ما علاقة النوبيّين بجيلدون؟ المسافة بين الأتولول في أقصى جنوب المغرب على المحيط الأطلسي والأتولول عند النّيل الأوسط جنوب مصر حوالي أربعة آلاف كيلومتر، كيف تمكّن جيلدون الاتّصال بهذه الشّعوب للوقوف معه، وهو شأن الجرميين (الجرامانت) في إقليم فزان بشكل أقلّ والنّاسامونس كما ذكرنا في السّرت (السّدرة) الكبير، إذا عرفنا أنّ كلّ هذه الشّعوب، التي ذكرها كلوديان، هي الشّعوب الأكثر شهرة بعدائها للرّومان وهي الشّعوب الأقلّ «رومنة»، ممّا يعني في رأي كلوديان، هي شعوب باربارية، لا تخضع للنّظام، وبالتالي تستحقّ الانتقام منها!


نكمل هذه التّساؤلات بتعداد القوّات ومعركة أرداليو، تذكر تلك المصادر أنّ عدد قوّات جيلدون، يقدّر بسبعين ألف جنديّ (Moderan Y. 1989, P. 858)بمجموع القوّات الرّومانية المرابطة في شمال إفريقيا، التي كانت تحت قيادة جيلدون بصفته «كونت إفريقية»، والتي قدّرها كانيا (Cagnat R.1892, P. 730, N°3) بعشرين ألفا والخمسين ألفا الباقية من النّوميديين والموريّين… هذا من جانب جيلدون، أمّا القوّات الرّومانية المرسلة تحت قيادة ماسكزال، شقيق جيلدون، فقد قدّرها كلوديان بخمسة (5000) آلاف جندي!


إذا كانت تقديرات كانيا للقوّات الرّومانية المرابطة في شمال إفريقيا، صحيحة، لا شكّ أنّ رافنا (عاصمة إمبراطورية الغرب)، كانت على دراية بهذا العدد، فكيف تغامر بإرسال خمسة آلاف (5000) مقاتل مقابل عشرين ألفًا من الجنود المتمرّسين، ولا نقول سبعين ألفًا، أليس في ذلك مجازفة؟
هل من المنطق، والمعقول أن ينتصر خمسة آلاف مقاتل، نزلوا لتوّهم بالأرض الإفريقية، وتوجّهوا إلى ميدان المعركة على ضفّة وادي أرداليو (Ardalio) (وادي سومة) حسب قزال (Gsell S., 1911, Flle 29 N° 100)في ضواحي تبسة، ما يعني، على بعد ما لا يقلّ عن مائتي وخمسين (250) كيلومترًا إلى الدّاخل.


أين نزلوا، كيف نزلوا، وكيف قطعوا هذه المسافة دون أن يعترض طريقهم أيّ كان؟ وأسئلة أخرى كثيرة؟
وأكثر من ذلك، تدوس هذه الكمشة من الجنود على سبعين ألفًا، بقتل عدد منهم وبفرار الباقي، طبعًا، لا يدخل هذا في إطار السيبيربيارومانا (Superbia Romana) – فحسب- بل ضمن الخوارق، واستجابة لدعوات القدّيس أمبرواز؟!
هكذا نلاحظ تحيّز هذه المصادر من ناحية وإيمانها بالخوارق، ممّا يصعب علينا الأخذ بها، أمّا عن أهداف جيلدون من هذه الانتفاضة، فإذا كانت تصرّفاته وفق أوروسيوس تخضع لاستراتيجية رجل قويّ جهويًّا، تهمّه إفريقيا فحسب، فإنّ القراءة المتأنّية لكلوديان يستنتج أنّ جيلدون كزعيم «قومي» له مشروع حقيقي لدولة إفريقية، ويضع انتفاضته في نفس خطّ يوغورطة، يوبا وفيرموس، وهو ما يرفضه تمامًا إيف موديرو(Moderan Y., 1989, P. 847)، خلافًا لكورتوا(Courtois, Chr., 1955, P. 145)، الذي يرى أنّ هدف جيلدون هو إعادة بناء دولة إفريقية، بتحويل المهام(Munsu)، التي كلّف بها من طرف روما لصالحه، وقد اعتبر عمليّة تقليص كمّية «الأنونة» سنة 396م قبل توقيفها نهائيًّا سنة 397م كعملية سياسية تكسبه ودّ المستهلك من الجماهير الواسعة، دون إثارة المساهمين ضدّه، فإذا كان التّقليص يعرّض «روما» للمجاعة وفق رأيه، فإنّ نتائجه على السّوق المحلّية، هو تكوين مخزون، يؤدّي وجوده إلى تخفيض الأسعار، مهما كانت طرق إدخاله في التّداول الاِقتصادي، وبالتّالي ما كان كارثيًّا لروما يتحوّل إلى نعمة على المقاطعة.


يشير كورتوا إلى ما هو أكثر تميّزًا في سياسة جيلدون الإفريقية، وهي مصادرة أراضي الإمبراطور، وحتى أراضي الأثرياء، ولم يكتف بذلك، بل باشر «إصلاح زراعي»، المستفيدون منه هم الدوارون الغاضبون حسب تعبيره، والدّوناتيون الوطنيون(Courtois Chr. 1955, P. 147-148)، وهكذا يكون مشروع جيلدون وفق البعض يتجاوز مشروع شقيقه الهادف إلى الانفصال بموريطانيا القيصرية إلى تشكيل دولة إفريقية.


مهما كانت أهداف جيلدون ومراميه من وراء اِنتفاضته تلك، وطنية قوميّة، كانت مثلما يشير إلى ذلك كورتوا، أو أهداف شخصية، مثلما يؤكّد عليها موديرو، فان مساهمته إلى جانب روما في ضرب شقيقه فيرموس (372- 375م)، تسجّل عليه كنقطة سوداء، وقد أتى عليه الدّور، ليضرب بشقيقه ماسكزال (398م) ، الذي أثار انتصاره غيرة ستيليكون، ولقي ماسكزال حتفه في حادثة، لم تكن من قبيل الصّدفة، لمن يريد أن يعتبر.
وإن كنا لا نثق في تلك المصادر، التي تركّز على سبيربيا- رومانا من جهة والنية البونيقية (الأنفيدوم- بونيكومInfidum Punicum ) من جهة أخرى، سمو الأخلاق والفضائل الرّومانية، مقابل الغدر والخيانة عند باقي الشّعوب، ممّا يدعونا إلى أخذ محتوى هذه المصادر بحذر شديد، عندما نهمّ لكتابة تاريخنا.


محمد الهادي حارش
الجزائر في: 25- 11- 2020.

البيبليوغرافيا:

Exit mobile version