حديث في الجدل الطوپونيمي بالجزائر


◙ طغى في هذه الأيام الأخيرة جدل حول تصحيح أسماء الأماكن التي تعرّضت للتشويه خلال عهد الاستعمار الفرنسي. ومن الطبيعي أن يحظى هذا الموضوع باهتمام الدولة والمجتمع، وهذا من أجل تصفية واقعنا الثقافي من الرواسب الاستعمارية التي مازالت تنغّص حياتنا. بيد أن مهمة التصحيح والتدقيق، لم تترك فقط لأهل الاختصاص الذين يملكون الأدوات المعرفية الضرورية للخوض في الموضوع، وهذا ما أدى إلى اختلاط الحابل بالنابل، وإلى إسقاط التعصب العرقي على الموضوع أحيانا، فانحرف عن هدفه وصار مجالا للصراع الهوياتي المقلق. كانت بداية الشرارة، يوم ظهور موسوعة أسماء الأماكن المنجزة من طرف المجلس الأعلى للغة العربية، المنشورة في موقعه الالكتروني بنيّة التصحيح والتدقيق قبل طبعه حسب ما قيل. هذا ولعل أهم سؤال يتبادر إلى الذهن: هل يندرج مجال الطوپونيمية (تدقيق أسماء الأماكن) ضمن اختصاص المجلس الأعلى للغة العربية؟ وهل أعدّ نفسه إعدادا متينا من حيث المنهجية والخبرة يضمن له النجاح في هذه المهمة الصعبة؟ على أيّ حال ذكّرني اللغط الجاري حول هذا الموضوع، بمقولة العالم المحدّث ابن حجر العسقلاني:« إذا تكلم المرء في غير فنّه، أتى بالعجائب».


◙ تعريف مصطلح الطوپونيمية toponymie
في بادئ ذي بدء يجدر بنا أن نعرّف الطوپونيمية toponymieتعريفا مبسّطا ميسّرا يفي بالغرض التنويري. فالمقصود به هو دراسة أسماء الأماكن من حيث الجذور اللغوية(الإيتيمولوجية)، في إقليم معيّن وبلغة معيّنة. وهذا العلم حديث النشأة إذ عقد مؤتمره الأول – برأي الأستاذ بوساحة أحمد- في باريس سنة 1938م للاهتمام بـ«أسماء الأماكن والمواقع باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تاريخ الإنسان وبيئته.» حسب ما ورد في كتابه الموسوم: ” أصول أقدم اللغات في أسماء أماكن الجزائر”.(منشورات دار هومة، 2002م،ص.6). وأضاف الأستاذ أن معظم التجمعات السكانية تأخذ أسماءها من الأماكن، بصرف النظر عن الأعراق والأجناس، وعليه فالإنسان هو الذي ينتسب للمكان. وبفضل هذا العلم تمكن الباحثون من القضاء على الأساطير والخرافات التي نُسجت حول نشوء أسماء الأماكن. ومن آرائه الأخرى أنه مقتنع بوجود تقارب وقواسم مشتركة بين اللغات السامية والفرعونية واللغات المتوسطية واللغة الأمازيغية، وهو ما يؤكد – في نظره- أصلها المشترك.

◙ اهتمام النخبة الجزائرية بأسماء الأماكن
إن اهتمام النخب الجزائرية بتصحيح أسماء الأماكن والأعلام ليس وليد اللحظة الراهنة،بل ظهر في سبعينيات القرن الماضي، فعلى سبيل المثال عُرِفَ عن المفكر مولود قاسم اهتمامه بتصحيح أسماء الأماكن المشوّهة منذ عهد الاستعمار الفرنسي، أتذكّر منها: ثمنغُشت(تمنراست)، ورجلان (ورڤلة).


أما الكاتب مصطفى لشرف المولود في بلدة سيدي عيسى بولاية مسيلة سنة 1917م، فقد تحدّث في كتابه:” أعلام ومعالم” عن أسماء الأماكن في الجزائر، موضّحا أن جذورها متنوعة حسب تنوع الحضارات المتعاقبة على شمال افريقية (أمازيغية/ فينيقية- بونيقية/ رومانية/ عربية)، مبيّنا أن أسماء الأماكن ذات الجذور الأمازيغية ليست محصورة فقط في المناطق الناطقة بالأمازيغية، بل منتشرة أيضا في ربوع الجزائر شمالا وجنوبا. ودعا في خضم النقاش الدائر في زمنه حول تصحيح أسماء الأماكن، إلى مراعاة الواقع التاريخي الاجتماعي المتميّز بتداخل اللغتين الأمازيغية والعربية، وهذا من باب الحرص على تمتين التماسك الاجتماعي المكتسب عبر التاريخ. زيادة على ذلك كان يرى أنه لابد من العودة إلى اللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية في عملية تصحيح الألقاب في سجلات الحالة المدنية، مع الاستعانة بذوي الخبرة والإلمام في اللغتين.


من الكتب القيمة الأخرى التي صدرت في الجزائر في هذا المجال، كتاب الدكتور محند أكلي حدّادو: Dictionnaire toponymique et historique de l´Algérie Editions Achab,2012. ، وتميزت منهجيته بالسمات التالية: ذكر اسم المكان/ ذكر موقعه/ نبذة عن تاريخ المكان/ تفسير دلالة المكان. أوضح المؤلف أن علم الطوپونيمية يندرج ضمن مجال اللسانيات. هذا وقد فسّر وجودَ أسماء أماكن تنتمي إلى لغة غير تلك السائدة في ذلك المكان، بظاهرة الانقراض اللغوي، التي طالت اللغة الأمازيغية الضامرة في أماكن كثيرة في شمال افريقية، ولم يعد لها وجود في هذه الأقاليم إلاّ من خلال الطوپونيمية(أسماء الأماكن). أمّا عن أهمية هذا العلم، فهي – برأي المؤلف- تكمن فيما تقدّمه للباحثين من معلومات مفيدة في مجالات عدّة كالجغرافية والجيولوجية والنبات ودراسة الحيوانات. وقد أشار المؤلف إلى أن الطوپونيمية، تعدّ خير شاهد على اللغات المنقرضة عندنا كالفينيقية والرومانية. ثم عرّج على المسخ الذي لحق العديد من أسماء الأماكن زمن الاستعمار الفرنسي. وأشار أيضا إلى أن عملية تصحيح أسماء الأماكن، قد أثرت سلبا أحيانا على بعض الأسماء الأمازيغية.

◙ منهجية المؤلفين في تقديم أسماء الأماكن
تميزت المؤلفات التي تعرّضت بالذكر لأسماء الأماكن على العموم، بالموضوعية والنزاهة العلمية، وتجلى ذلك من خلال استعراضهم لمجمل التفسيرات التي قيلت حول اسم المكان المدروس دون إقصاء. وقد رجّح بعضهم تفسيرا على حساب تفسيرات آخرى، في حين التزم البعض الآخر الحياد إزاء التفسيرات المتنوعة.


من المؤلفين الذين ساروا على هذا المنوال الموضوعي، المؤلف ابراهيم لعوامر في كتابه الموسوم: “الصروف في تاريخ الصحراء وسوف” الذي ألفه سنة 1916م. فقد ذكر مجموعة من التفسيرات العربية لتسمية سوف( التصوف/ لباس الصوف/ سوف من الحكمة)، كما ذكر أيضا تفسيرا أمازيغيا (أزوف أو أسوف وهو الوادي). ثم أنهى الفقرة الخاصة بتعريف اسم “سوف” بعبارة: (والله أعلم)، وهو ما يدلّ على تحلّيه بأخلاق العلماء المتميّزة بالنزاهة والتواضع.


أما الكاتب كمال بوشامة الذي خصّ مدينته شرشال بكتاب عنوانه: ” من يول إلى القيصرية إلى شرشال De iol à Caesaria à … Cherchell .”، فقد ذكر مجمل التفسيرات التي قيلت في اسم المدينة( لاتينية/ أمازيغية/ عربية) دون أن يفصل في أمرها، مفضّلا التريث لعل الدراسات التاريخية المستقبلية ستقدم مزيدا من التوضيح حول تحديد دلالة التسمية.


بالنسبة للأستاذ محمد طمار، فقد استعرض في كتابه الموسوم:” تلمسان عبر العصور” مجمل التفسيرات التي قيلت في اسم تلمسان، فذكر تفسيرا مفاده أن الاسم مركّب من كلمتين؛ (تلمّ) أي تجمع، و(سان) معناه اثنان؛ الصحراء والتل، وهذا رأي أبي عبد الله المقّري الزناتي. ثم ذكر تفسيرا آخر مفاده أن الاسم أمازيغي(تِلْمِسَانْ) وهو جمعٌ لكلمة (تلْمَسْتْ) التي تعني الأرض الخصبة ذات المياه والأشجار. وفي الأخير رجّح المؤلف التفسير الأمازيغي لاسم تلمسان.


هذه مجرّد عيّنة عن الدراسات النزيهة التي عالجت مسألة أسماء الأماكن، بموضوعية، اعتمد أصحابها فيها على عدد من المراجع والمصادر المختلفة، دون تعصّب لهذا الرأي أو ذاك، إنما الترجيح عندهم مؤسّس على اعتبارات علمية، بعيدا عن الذاتية التي تطمس الحقائق التاريخية. فما أحوجنا إلى استخلاص العبر من هذه الرؤى الهادئة، لتلافي الإسقاطات الإيديولوجية الضيقة المهدّدة لأمننا الهوياتي.

بقلم الباحث و المؤرخ محند أرزقي فراد

Exit mobile version