البروفسور محمد الهادى حارش: التأثيرات الفينيقية في بلاد المغرب القديم

طرح سؤال ” التأثيرات الفينيقية ” في مسابقة الدخول إلى السنة الأولى ماجستير بقسم التاريخ أكثر من مرة ، أخرها أكتوبر 2007 ، وهو في الواقع ” سؤال إشكالية ” ، يستوجب في رأينا دراسة تتجاوز حدود مستوى مسابقة الدخول إلى الماجستير ، التي تكون في موضوعات التدرج ، إذ لا يمكن في رأينا ـ دائما ـ اختزال هذا الموضوع المتشعب في ثلاث ساعات من الامتحان ، إذ يمس جوانب مختلفة بدء بهوية الفينيقيين ذاتهم ، وهل نتحدث عن الفينيقيين أم البونيقيين ؟ وتكرار السؤال في هذا المستوى ، معناه إقرار بالنتيجة . هذا الإقرار يتبعه إقرار آخر ، يتعاقب التأثيرات الأجنبية في تاريخنا : الفينيقية ، الرومانية ، الوندالية ، البيزنطية …، ولا يسعنا إلا التساؤل ، هل يعقل أن نغيب هكذا بالكامل ، ونتصور ” كمشة ” من تجار قادمين من الشرق ، يحملون معهم حضارة ” جاهزة” إلى هذه ” الجموع “التي مازالت تعيش في ليل ما قبل التاريخ الطويل ؟ يبدو لي من المجازفة التسليم هكذا بالأشياء دون نظر ، إذ يستشف من المصادر المتوفرة ـ رغم قلتها وشحها وتحيزها ـ في أحيان كثيرة ، إن الليبيين ـ أسلافنا ـ لم يكونوا غائصين في بدايات ما قبل التاريخ ، عرفنا من خلال تلك المصادر ، أن تأسيس قرطاجة في أواخر القرن التاسع قبل ميلاد المسيح عليه السلام (914 ق. م ) ، قد تم في ظروف سليمة ، وان المدينة لم تواجه بعمل عدواني على اثر انتحار الأخيرة ـ عليسا ـ (1) وإنما بمقتضيات تعبر عن تحضر وسلطة مركزية منظمة ، وليس عن زمرة من الرحل ، كما تحاول المدرسة الكولينالية ، الإيحاء به ، حتى ترسخ في أذهاننا الانعزالية والقصور ، ورحنا نحن نردد ، وكانت تلك لا يرقى إليها الشك . إذن عند تأسيس قرطاجة ، كان هناك كيان وسلطة سياسية ليبية ، هذه السلطة ، تواصلت فعليا لعدة قرون ، مادامت قرطاجة ،ظلت تدفع لها الضريبة حتى وهى قوة بحرية (2) إذ لم تتنكر للضريبة التي كانت تدفع للأهالي حتى القرن الخامس ، هذا القرن الذي عرفت فيه قرطاجة تحولا عميقا في سياستها (3) ، وهو التحول الناتج عن هزيمتها في معركة هيبيرا سنة 480 ق.م ، مما ترتب عنه الحديث عن نفوذها البحري في الحوض الغربي للمتوسط ، فتنكرت أولا للضريبة ( مابين 475ـ 450) التي كانت تدفعها للأهالي ، وشرعت ثانيا في احتلال أراضى المغاربة ، حيث كونت لها كيانا قاريا بعد أن كانت تكتفي بالسيطرة في البحر (4).

إذا كانت هناك أنظمة سياسية في منتطقتنا المغاربية عند قدوم هؤلاء الملاحين الفينيقيين ،ألا يحق لنا أن نتساءل عن أصول” المدينة ” في بلادنا المغاربية ، لا اعتمادا فقط على كون بعضها تحمل أسماء ليبية ، فحسب ، بل إن الكثير فيها واقعة في المناطق الداخلية وخارج الأراضي البونيقية ، وأكثر من ذلك إن تحتوى مقابر هذه المدن أثاث جنائزية أصيلة (5) ، ومماثل للمقابر الريفية ، وان نكتشف مراسيم جنائزية غير معروفة عند الفينيقين ، هنا إشارات قوية ، لا يمكن اهمالها حول تأسيس هذه المدن ونوعية أعمارها ، فمدينة مثل قيرطا ، لم تكن أبدا تحت سيطرة الفينيقين ، ولم تكن من تأسيسهم ، وهو شأن سيقا ومدن أخرى كثيرة (6) . إذا كانت كل تلك البقايا ، تدل على أنتضام تلك الممالك ، التي تحدث عنها مصادرنا قبل قدوم هؤلاء الملاحيين الفينيقيين ، وإذا حاولنا أن نبحث في نظم تلك الممالك والمدن ، نجد أنها لم تكن منسوخة عن نموذج فينيقي ، مادمنا نجد خصوصيات محلية ، بالتأكيد وجدنا الشفطية في بعض المدن النوميدية والموريطانية ، لكننا نجد تشابها في الأسماء مع اختلاف الوظائف ، إذ نجد ثلاثة أشفاط في مكثر ، بينما لا نجد في ثوقة ، العاصمة الملكية لبعض الوظائف البلدية ، لم تكن معروفة عند الفينيقيين ، مادمنا نجد المصطلحات الليبية التي تشير إلى تلك الوظائف ، بقيت دون ترجمة في النص البونيقى ، الذي اكتفى بنقلها كما هي في اللغة الليبية . وهكذا ندرك ، أنه عند قدوم هؤلاء الملاحين الفينيقيين ، لم يأتوا على فرغ ، كما تحاول المدرسة الكولونيالية ترسيخه في أذهاننا ، وأن عليسة ، طلبت من ملك محلى أن يبيعها قطعة أرض ، لتبنى المدينة الجديدة ، قيرطاـ حدشت ، وان انتحار عليسة بهدف التخلص من متطلبات هذا الملك ” هيرباص ” ملك الماكيستانى (Maxitains ) عند يوستينوس (7) (Justin ) ، والمازيكيسس (Mazices) عند يوسثات (Eusthate ) ، وفى استمرار دفع تلك الضريبة حتى في أيام قوة قرطاجة ، يعنى قوة هذه الأنظمة ، التي وجدناها ، تتدخل حتى في شؤون قرطاجة مثلما حدثت مع حنون الذي استنجد بملك ” ماورى ” ليصل إلى الحكم . إذا كان ذلك هو الواقع الذي يستشف من مصادرنا ، لنحاول الآن استجلاء ” التأثيرات الفينيقية ” التي يتحدث عنها مؤرخو المدرسة الكولونيالية في المجالين المادي والمعنوي ، والتي رحنا نرددها .

نتعرض في المجال المادي إلى : الزراعة ، الحرف والتعدين ، وفى المجال المعنوي إلى اللغة والكتابة وكذا المعتقدات .

في مجال الزراعة : نجد إجماعا عند المؤرخين على قدم زراعة الحبوب ( القمح ، الشعير بالخصوص ) في بلاد المغرب(8) ، وأنها تعود إلى عصور ما قبل التاريخ ، وقد رأى كومس في بعض الأدب القفصية الدليل على بداية الفلاحة كما يرى في المناجل المكتشفة في مناطق متفرقة من الجزائر الحالية ، والتي تعود كلها إلى الحضارة القفصية العليا الدليل على الإنسان القفصي ، قد مارس عملية جنى الثمار منذ أوائل العصر الحجري الحديث (9) . ويمكننا القول بناء على ذلك ،أن الليبيين ، لم ينتظروا قدوم هؤلاء الملاحين للشروع في زراعة الحبوب ، وهو شأن تربية المواشي : الأبقار ، الأغنام ، الماعز ، والخيول ، التي كانت بلاد المغرب مضرب الامتثال عند القدامى منذ عصر هوميروس (10) وهيرودوت (11) إلى عصر يوليبيوس (12) وليفيوس(13) وسالوستيوس (14) ، بل يرى بعض الباحثين أن تربية المواشي عند الليبيين ، كانت أكثر ازدهارا منها عند الفينيقيين (15) .

في مجال التشحين إضافة إلى التين والزيتون ، فقد عرف الليبيون ( المغاربة القدامى ) اللوز والكروم والنخيل كأشجار محلية (16 ) . شجرة الزيتون : هناك اختلاف بين الباحثين حول الموطن الأصلي لشجرة الزيتون ، ففي الوقت الذي يرى فيه دى كاندول (17) أن الموطن الأصلي لها هو آسيا الصغرى ، من حيث انتقلت إلى مصر ثم إلى بلاد الإغريق وايطاليا ، رأى جماعة من علماء النبات الذين حاولوا التوفيق بين الدراسات العلمية والمعطيات التاريخية ، أن الوطن الأصلي لشجرة الزيتون ، هو كريت وجزر بحر ايجة ، من حيث انتقلت إلى سوريا وفلسطين في القرن الخامس عشر ق. م ، ثم إلى مصر في القرن الثالث عشر ق . م في عهد رمسيس الثاني (18) ، والإغريق الذين نقلوها إلى ايطاليا عرفوها بدورهم عن طريق الكريتيين ، لكن كلا الرأيين لا يسلم من العيوب ، أما فيما يخص الرأي الأول ، فنجد ما يبث الشك فيه ، فيما ذكره هيرودوت (19) من أن سكان بابل لا يعرفون الزيتون ، ولا توجد عندهم تسمية لهم ، فلا يعقل أن يكون الموطن الأصلي له آسيا الصغرى ، وينتقل منها الى سوريا وفلسطين ومصر ، ودون أن يعرفه سكان بابل ، أما فيما يخص الرأي الثاني ، الذي يرى أن المصريين ، عرفوا الزيت في القرن الثالث عشر ق. م ، سواء عن طريق كريت وجزر بحر ايجة أو عن طريق الشام التي ووصلها من جزر بحر ايجة في القرن الخامس عشر ق, م فنجد في الآثار المصرية ، ما يفند ذلك ، إذ تبين تلك الآثار ، أن المصريين عرفوا شجر الزيتون وزيت الزيتون عن طريق الليبيين ، منذ ما قبل عهد الأسرات أي منذ أواخر الألف الرابعة ق .م (20) ، إذ تشير لوحة ” التحينو ” التي عثر عليها في أبيدوس إلى شجيرات الزيتون ضمن الغنائم التى جلبها أحد ملوك هيراكليوبوليس ـ ربما ـ الملك العقرب أو الملك نارمر، فالي جانب الثيران والحمير والأغنام ، نجد أسفلها شجيرات الزيتون بالقرب منها العلامة التي تدل على التحينو (21) .

وأقدم الإشارات التاريخية إلى الزيتون وزيت الزيتون أتتنا من منطقة مراقية (مرماريداى) حاتت (Hati , Hatet) ، الذي استخدم لدهن جباة الآلهة والملوك ، وقد نعت نصوص ب ” تهنت ” (thent ) أى الليبي (22) ، وقد تمت الإشارة إلى أهمية هذه الزيت بالنسبة للفراعنة على عدة صلات ملكية تعود إلى العهد الثينى(23) . وقد عرف الزيت الذي استخدمه المصريون لدهن جباه الملوك منذ العهد الثينى (24 ) بحاتت ، واعتمادا على أن شجرة الزيتون لم تكن شجرة برية في حوض نهر النيل ، وان زراعتها لم تتكاثر وتنتشر إلا جزئيا في عهد الدولة الحديثة ، والعكس في ليبيا ( بلاد المغرب ) ، حيث نجدها شجرة برية ، يمكننا أن نقر أن الاسم الذي يطلقه المصريون على الزيت ” حاتت ” ليس من أصلى محلى ، وانه مشتق من التسمية الليبية ” أحاتيم ” التي يراها جولود موغلة في القدم (25 )، وهناك اشارات الى المبادلات التجارية مع مصر منذ عصر نبكر ، ومن بين ما يشتريه المصريون زيت ليبية متخثرة جدا ، نجدها مذكورة على كل القوائم الاهدائية التي تتكون منها وجبة الملوك والألهة والأموات المؤلهين (26) .

وهكذا نلاحظ قدم استخدام الزيت عند الليبين رغم رأى باسى المخالف ، إذ يرى في وجود تسميتين للدلالة على شجرة الزيتون ما يدعم رأيه،اذ يرى أن كلمة ” أزمور ” الليبية تطلق على شجرة الزيتون ” البرية ” بينما تسمية ” الزيتون ” السامية تطلق على شجرة الزيتون “المغروسة ” ، وبالتالي في رأيه يكون الفينيقيون قد أدخلوا زراعتها ،كما علموا الليبيين فن استخدام الزيت من الزيتون (27) وفي رأيه أيضا عدم وجود تسمية للزيت في اللغة الليبية ماعدا كلمة ” أوذى ” التي تعنى المادة الدسمة عموما (28) وبالتالي يكون الليبيون حسبه تعلموا فن استخدام الزيت عن الفنيقين ، طبعا لا نحتاج إلى فطنة وذكاء حاد لتفنيد هذا الادعاء ، فكلمة ” أودى ” لا تعنى المادة الدسمة عموما بقدر ما تطلق على ” الزبدة ” ، وهذا في كل لهجات اللغة الليبية من” سيوة” بمصر إلى سوس ” بالمغرب الأقصى ” ، أما عن ” الزيت ” فقد أشرنا سابقا إلى معرفة المصريين لها عن طريق الليبيين منذ العصر اليثنى ، أما عملية الغرس ، فقد عرفها المصريون من منطقة مراقية بليبيا ، منذ عصر ما قبل الأسرات ، بنقل شجرات الزيتون ، وحتى التسمية التي يكو المصريون ، قد أطلقوها عن هذه المادة ” حاتيت ” ، تكون مشتقة من التسمية الليبية ” أحاتيم ” . أما اسم ” أزمور ” التي يرى باسى (29) أنها تطلق على الزيتون البرى ، فهو خطأ آخر يعود لجهله ” باللغة الليبية ” لان الزيتون البرى ، يعرف ب ” أزبوج ” ونجد في سعة انتشار هذه الكلمة في العالم الليبي من سيوة و غدامس والأوراس حتى جرجرة والريف والسويس ما يدل أيضا على جذورها المحلية (30) ، بينما كلمة ” أزمور ” تطلق على الزيتون المغروس والمطعم في أن واحد ، وقد عرف المغاربة القدامى التطعيم قبل قدوم الفينيقيين (31) وعرفوا استخدام الزيت من الزيتون ( العصر ) ، منذ عصور قديمة ، مادامت النصوص المصرية ، التي تعود إلى أواخر الألف الرابعة وأوائل الألف الثالثة ، تتحدث عن الزيت الليبية ، التي تستخدم في دهن جباه الملوك . والمعروف أيضا أن شجرة ” التين ” هي شجرة برية ، ولكن مع ذلك يقول ” باسي (32)أن البونيقين ، علموا الأهالي غراستها بالخصوص ” تأبيرها ” ، وكأن عملية الإخصاب لا تتم بطريقة تلقائية طبيعية ، وبالتالي حاجة المغاربة إلى تعلمها من طرف آخر ، وهذا ما يدفعنا إلى التفكير في أن أبسط التقنيات الزراعية غريبة عن المغاربة ، وأن هذه الأمة التي عرفت الزراعة منذ العصر الحجري الحديث ، كانت محرومة من كل مبادرة محلية . أما استناد “باسي ” إلى فقر اللغة في هذا المجال أيضا مما لا يسمح به المراقبة ، فأقول أن كلمة أزار ( AZAR ) أو تازارت بالأدق التي استند عليها ، وترجمها حبة التين (33) ( la figue ) ، فهي تعنى حبة التين الجافة ، العكس تماما ، فاللغة الليبية في هذا المجال ثرية جدا ، سواء فيما يخص الشجرة أو الثمرة في مختلف مراحل التفتح ، النضج والتجفيف : ثيقرقوشت ، ثيفخسيست ، اينيغم ، ثازارت ، وحتى الأنواع وهذا ليس مجالها . يبدوا نفس الشيء بالنسبة للكروم التي وجدت في شكلها البرى في بلاد المغرب منذ الحقب الرابع (34) ، لكن هذا لم يمنع بعض الباحثين القول بأن دخولها إلى بلاد المغرب ، يعود إلى الفينيقيين (35) ، بل أكثر من ذلك ، اعتبر كاربينو أن الفينيقيين هم الذين دفعوا المغاربة إلى الاستقرار ، وبذر الحبوب ، وغرس الأشجار المثمرة ، وعلموهم زراعة الكروم (36) .

هذا حول الزراعة ، أما من حيث أدوات النتاج ، فيرى كثير من الباحثين أن كانت لهم تقنياتهم الخاصة (37) ، وهى تقنيات قديمة ، تعود إلى ما قبل الفينيقيين بزمن طويل ، كما كانت لديهم عادات مميزة خاصة على مستوى الأدوات المستخدمة وطرق الاستغلال (38) ، فعلى مستوى الأدوات ، استخدم المغاربة القدامى المجرفة ، وذلك قبل معرفة المحراث ، كما استخدموا المعول وأنواعا من المعازيق المحلية ، التي يرى كومس في بعض صور والأدوات النيوليتيكية شهادة على قدم استخدامها في بلد المغرب (39 ) ، وهو شأن المحراث الذي أجمعت الدراسات على وجود محراث محلى ، لا بد فيه لا للفينيقيين ولا الرومان من بعدهم (40) بل تساؤل باسى إن لم يتبن القرطاجيون محراث الأهالي (41) . وفي مجال الحرف ، أقر باسى بجاهيزيته أو استعداده لافتراض أن التأثيرات البونيقية جد معتبرة ، نظرا لعلاقات المغاربة بالفينيقيين القديمة أولا ثم بعد ذلك ، ظلت قرطاجة أحد المراكز الصناعية في غرب المتوسط ، وبالتالي يفترض إشعاع تجارتها على الغرب ، لكن عندما درس عن كثب ، أدرك أنه لا يمكن الاستئناس إلى المظاهر (42) . ففي مجال صناعة الفخار ، لاحظ تعايش تقنيتين التقنية الأولى ” يدوية ” دون استخدام الدولاب ويحرق في الهواء الطلق ، وهو من صنع النساء ، ويوجه للاستهلاك المحلى ، وهو قديم جدا ، نعثر عليه خاصة في المناطق الجبلية ، والتقنية الثانية هي التي تستخدم الدولاب والفرن ، وهو فخار ذو تقنية عالية ، يوجه للبيع في الأسواق (43) . النوع الأول قديم جدا ، بكثير حتى من الوجود الفينيقي ، ويقدم تشابها عجيبا في تقنياته وإشكاله وزخارفه مع الفخار الريفي الحالي (44) ، وحتى استخدام الدولاب والفرن قد عين في ليبيا ، وفرن الفخار البونيقى المعروف بشكل جيد عند الأثرين ، يختلف عن فرن حرفي شمال إفريقيا ، فلا شيء في هذه التقنية يؤكد التأثير البونيقى حسب باسى ، وحتى الزخارف ، زخارف الفخار المصنوع بالدولاب ، تختلف عن الزخارف البونيقية (45) .

وقد توصل ” باسى ” (46) إلى نفس الحقائق في مجال صناعة المعادن ، حيث نجد تعايش عدة تقنيات ، ويظهر اختلافها في الإدارة الأساسية عند الحداد وهي ” النافخ ” حيث نجد ثلاثة أنواع : 1)النافخ ذو الصمام المضعف الذي يستخدم في الحديد والنحاس

2)النافخ ذو الحقيبة ، وهو النافخ الذي يستخدمه الحدادون المتجولون لصناعة خاصة الحلي والحديد الأبيض وأحيانا النحاس

3) نافخ مضعف ، يتشكل من نافخين ، يقدم نفخا مستمرا . والذي يهمنا هو النوع الثاني ، الذي يستخدم في صناعة الحلي ، ويمكننا الاعتقاد بقدمه في شمال إفريقيا ، وفي مجال الحلي ، نجد أن الحلي المميزة ھى حلى منطقة القبائل وإقليم السويس ، وهى تختلف اختلافا واضحا عن الحلي القرطاجية .

وفى مجال الأنسجة ، لا نعرف إلا شيئا قليلا عن الأقمشة البونيقية ، ولا شيء عن تقنيات صنعها ، مما لا يسمح لنا المقاربة المباشرة ، ومع غياب الوثائق ، يمكننا اللجوء إلى الزخارف ، زخارف الأقمشة الليبية التي يمكنها أن تعطيها بعض الإشارات إن درسنا عن كثب ، ندرك بسهولة أن عناصرها عادية ، وهى نفس العناصر الهندسية التي نجدها أيضا على الفخار وعلى الحلي والوشم ، منذ عصور ما قبل التاريخ ، وهى تقدم وحدة ملحوظة مهما كانت المادة المستخدمة ، وهذا الفن الزخرفي ، لا علاقة له بالزخارف الفينيقية وسابقة له . وهكذا نلاحظ أن التأثيرات الفينيقية ومن بعدها القرطاجية في المجال المادي ، كانت محدودة إن لم تكن منعدمة ، ففي كل مجال ، تمكننا فيه من تحديد تقنية محلية وفق تعبير ” باسى ” ، أدركنا أنها ليست فينيقية (47) .

في المجال المعنوى : إذا كانت تلك هي وضعية التأثيرات في المجال المادي ، ففي المجال المعنوى ، يبدو الأمر أكثر تعقيدا باعتبار أن ما تركه لنا المؤرخون القدامى في المجال لا يشفى الغليل ، لا في مجال المعتقدات ولا اللغة والكتابة ، فضلا عن النظم ، وهو الأمر الذي يجعل اللجوء إلى اللقى الأثرية أمرا حتميا ، كلما أمكن الاستعانة بها ، ففي ما يخص ديانة الليبيين ، النقوش تستطيع أن تقدم لنا في هذا الخصوص بعض الإشارات العابرة ، لكنها كافية لإعطائنا دليل وجود مجمع آلهة (بانتيون ) محلى ، يختلف لا عن البانتول الإغريقي الروماني ، فحسب ، بل عن البانتول القرطاجي . ولنا في نقش ، الأول أكتشفه ريبود ، نقرأ فيه :DEO NUM(idaum) MAG (no) (48) اله النوميديين الكبير ” ، يسمح لنا بافتراض وجود في نوميديا ” اله أكبر ” لم يكن مجرد رمز سحري ، خلافا لما يدعيه الكثير من الباحثين الذين يحاولون التأكيد أن الليبيين عاجزين عن إبراز من عاداتهم السحرية شخصية إلهية ، في صورة ” اله أكبر ” دون أن يكون ذلك بمساعدة أجنبية (49) .

النقش السالف يدعمه النقش المكتشف سنة 1890 من طرف يول(M. poule ) في عين الكبيرة ، بضواحي سطيف ، و هو يبدو لنا قاطعا :
الإله الوطني DEO PATRIO الإله الحي BALIDDIR (50) AVG
الإله المقدس SAGRVM(51) إضافة الصفة ” الوطني ” على ادعاءات هؤلاء الباحثين الذين انصبت جهودهم على إبراز عجز الليبيين القدامى ، وبالتالي تأكيد فكرة تعاقب المحتلين ، وتعيب العنصر المحلى في نع تاريخية . إذا أضفنا إلى النقش المشار إليها ، ما وراه شيشرون عن تضرع الملك ” ماسينيسا ” إلى الشمس كاله أعلى Summe sol (52) ، وكذا شهادة هيرودوت (53) عن الليبيين الذين يبجلون ” الشمس والقمر ” ، قبل ذلك بزمن طويل ، وظلت الشمس والقمر ، تستحوذان على مكانة الصدارة في نصب الأهالي حتى في الفترة الرومانية ، مما يدل على هذا العمق العقائدي .

هذا في جانب المعتقدات عند الليبيين ، وإذا حاولنا أن نبحث في نفس الجانب عند القرطاجيين ( البونيقين ) ، يحق لنا أن نتساءل ، إن كان في الإمكان أن ننتظر إيجاد معتقدات سامية خالصة نقية ، سواء بسبب الأصول المختلطة للبونيقين ، أو بسبب التأثيرات الأهلية التي تعرضت لها الديانة البونيقية ، إذ نلاحظ أن مؤسسي قرطاجة ، لا يشكلون مثلما يشير إلى ذلك بيقانيول عنصرا متجانسا (54) ، فيوستينوس يقول أنه جانب الصوريين الذين هاجروا مع عليسة ، نجذ القبارصة الذين انظموا إليها في طريق رحلتها إلى إفريقيا ثم الأهالي (55) ، فمن هنا نجد انصهار شعوب ، وهو ما يشهد عليه التنوع في العادات والطقوس الجنائزية عند البونيقين . تفاجأ بعض الباحثين بالعثور على عادة ” حرق الموتى ” في المقابر القرطاجية سواء في قرطاجة ذاتها أو في موتيا ورشقون (56) باعتبارها عادة غريبة عن الساميين ، بينما راح البعض الأخر يبحث عن إيجاد آثار لها في المواقع الليبية للبرهنة عن التأثيرات البونيقية (57) في فينيقيا عرفنا من خلال آثار رأس الشمرا ( أوغاريت ) ، أن الإله حاد اله الرعد هو الإله الأعلى ومن لقائه بالآلهة عثرت إلهة الحب والخصوبة ولد ملقرت اله صور

. في قرطاجة الآلهة الكبرى هما : بعل حمون وتانيت ، والبحث في أصول هذين المعبودين يصطدم بالعديد من الصعوبات ، فتانيت مثلا يمثل مشكلة ، لأننا لا نصادف اسم ” تانيت ” ضمن مجموعة الألهة التي عبدت في المدن الفينيقية الشرقية ، ومحاولة تشبيهها ب” عشترت “، التي درج عليها المؤرخون المحدثون ، تصطدم ببعض الاعتراضات ، لأن عشترت ، كانت رمزا للخصب ومرتبطة بالأرض ، بينما كانت “تانيت ” ربة سماوية ، مرتبطة بالقمر ، مما يدعم رأينا هذا الهلال والقرص ، اللذان يظهران على كثير من المباني الدينية في المواقع الفينيقية الغربية ،وكانا يرمزان للألهة ” تانيت ” وزوجها ” بعل حمون ” الأولى التي تعد في النقوش وجه الثاني ” الأولى ” القمر ” والثاني ” الشمس ” . وإذا عرفنا أن تغيرا جوهريا ، قد حدث في الديانة القرطاجية بداية من القرن الخامس ق.م على اثر هزيمة قرطاجة في معركة ” هيبيرا” عام 480 ق .م وما نجم عن ذلك من تغيرات في سياستها داخليا وخارجيا ، وانفصالها عن الوطن الأم ، أدركنا كيف فقد ” ملقرب ” و ” عشترت ” مكانتها التي احتلها “بعل ـ حمون ” و” تانيت ” ، فهل يسمح لنا هذا بالقول أن قرطاجة التي درجت سابقا على ضغط مكانة معتقداتها الشرقية ، قد ، بدأت تتبنى آلهة محلية ، مثلما عبر عن ذلك قزال الذي قال : ” بتبنى ” آمون ” الإله الرئيسي عند الليبيين ، تكون قرطاجة ، تريد التصالح مع سيد البلاد التي احتلها (58) ، هذا ما لا نستطيع الجزم به ، لكن هناك معطيات كثيرة تسمح لنا بذلك ، فالنصوص الهيروغليفية ، تتحدث عن عبادة المصريين لآلهة أطلقوا عليها اسم ” نيت تحينو ” إي ” نيت الليبة ” . و إذا أدركنا التشابه الموجوديين ” نيت ” و ” تانيت ” ، التي إن حذفنا منها ” تا ” البداية ، الدالة على ” نيت ” التي عبدها المصريون ، مما يعطى أهمية كبيرة لهذه النصوص ، التي تؤكد الأصل الليبي لهذه المعبودة ، وهو ما دفع بقانيون (59) إلى الدعوة الي وجوب التخلي عن البحث لإيجاد اشتقاق سامي لاسمها ، والتساؤل لماذا لا نقبل بتأثيرات ليبية على البانيتون القرطاجى ؟ ، وهو رأى ديسو أيضا الذي يقول : ” أن بالقامة في قرطاجة تعرف الفينيقيون على الآلهة المحلية الكبرى وتبنوها (60) .

هذا حول ” تانيت ” ، أما بخصوص عبادة بعل حمون ، فكانت سهولة وسعة انتشار عبادته في صفوف الأهالي مثار تساؤلات واستغراب الخبير باللغة البونيقية جيمس فيفري (Fevrier J.G) ، الذي يرى أنهم يسبق للمغاربة أن انتشرت بها عبادة ” بعل حمون ” ، وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد بوجود جذور محلية لها (61) . وقد تساءل هنري باسي (62) بدوره حول المعتقدات الفينيقية ما اذا كان لها مفعول عميق في المعتقدات الليبية ، ام لا ؟ ولكنه يلخص مع ستيفان قزال (63) إلى أنه لا شيئ مؤكد ، وان المعلومات المتوفرة حول الديانة القرطاجية قليلة ، لا تسمح بإعطاء رأى نهائي في الموضوع ، لكنه يستمر (أي باسى ) تساؤلاته ، فيقول ما نلخصه : ” إن المعتقدات القرطاجية تبدو أنها كانت متفتحة على التأثيرات الخارجية … ليصل إلى إمكانية تبنى القرطاجيين لآلهة محلية(64 ) .

إذا أخذنا بهذا الرأي واعتبرناه ممكنا ، أيمكننا اعتبار آمون وبعل حمون إلها واحدا ؟ أيمكننا ترجيح إمكانية حدوث عملية مزج بين الكلمة الفينيقية ” بعل “التي تعنى ” السيد أو الإله ” وكلمة ” آمون ” الليبية التي تعنى الإله المعبود عند الليبيين قبل قدوم الملاحين الفينيقيين إلى المنطقة المغربية ، وظهور نتيجة عملية المزج هذه الإله ” بعل آمون ” أو ” بعل ـ حمون ” ، إشكال نطرحه للمناقشة رغم إننا نميل إلى عدم استبعاد الفكرة للدواعي التالية:

1) ان آمون كان يرمز له بالكبش ” قوة القطعان الليبية ” وان عبادة بعل ـ حمون كانت لها أيضا صلة بالكبش .
2) عبد آمون عند المغاربة كاله الشمس وكذلك كان بل حمون عند القرطاجيين .
3) صعوبة التفريق بين ” الإلف” و” الحاء” و” الهاء ” في اللغة البونيقية ، وهذا واضح في نقوش معبد الحفرة ، التي ينقش فيها اسم هذا الإله بعل حمون أحيانا ، وبعل ـ آمون في أخرى ، وفي نقش واحد بالصيفتين أحيانا مثلما هو في النقش التالي :
1-AU Seignw , a baal Hammon et a la dame tantnit , Face de Baal , voue
2-Qu’avoué abdmelquart Fils de ozmilq ,tu enterdras (ou tuenteds
3-Sa voix , benis-le (65)
وبعل آمون في نقوش أخرى مثلما هو في النقش 81 ، اللوحة 15 د :
1-Au seigneur , Ammon et à T anit

2-Face de Baal (ce ) Qu’a voue Himiled .
3-(Le) Mystr, Fils de Baal silek le conseiller parce-quil a entendu sa voix illa beni
وورد في نقش واحد بالصيفتين :
1-pierre (stele) qu’a voué Mattan
2-Baal Fils de yiv à Ammon
3-Au Ieigneur a Baàl Hammon
4- età Tanitu face de Baàl
5-Il a entendu sa voir il la beni

4)  أن عملية المزج هذه ” أي المزج بين بعل ” الفنيقين وآمون الليبي ” ، لم تكن الأولى ، إذ سبق للمصريين أن مزجو بين الإله ” رع ” اله الدولة القديمة في ممفيس و” آمون ” في عهد الدولة الوسطى ، عندما انتقل الحكم إلى طيبة ، ليصبح ” آمون ـ رع ” (67) ، وهو أيضا ما فعله سكان قورثة من الإغريق الذين مزجو بين “آمون اله الليبيين و” زيوس ” اله الإغريق ، فظهر ” زيوس ـ آمون ” ، الإله الأعلى للإغريق قورينة ، الذين تأثروا بالمعتقدات الليبية ، وانتقلت هذه العبادة إلى مدن الإغريق مثل أثينا ، اسبرطة و ميقالوبوليسو غيرها (68) ، وهو ما حدث مع جوبتر ـ آمون في الفترة الرومانية .

5) عدم عثورها في المدن الفينيقية في المشرق على ” معبود ” لهذا الاسم ” بعل حمون ” وكونه الها للشمس . كون هذه العوامل ، تجعلنا نميل إلى الأخذ بأصول ” بعل ـ حمون ” الليبية ، وأن كل ما حدث إنما هو عملية مزج بين ” بعل ” عند الفينيقيين و” أمون ” الذي انتشرت عبادته في كامل بلاد المغرب إلى سيوة شرقا . إذا كانت تلك الكتابة هي وضعية المعتقدات ، فما الوضع بالنسبة ل. اللغة والكتابة ؟

أولا :ـ اللغة : اللغة المتكلم بها في قرطاجة وبعض المدن الساحلية هي اللغة البونيقية ، واللغة البونيقية هي نتيجة تفاعل بين اللغتين الليبية والفينيقية القادمة من الشرق .

و في مجال التأثير ، يذكر سالوستيوس بخصوص اللغة المتكلم بها في ” لبدة ” ، : ” اللغة التي يتكلم بها سكان لبدة ، تغيرت ” Liagua conversa ” مع الوقت على اثر الاختلاط مع النوميديين ، لكن احتفظوا بقوانين وعادات صيدا بكثير من السهولة نتيجة بعدهم عن مركز القوة الملكية ، إذ تفصلهم صحارى واسعة عن الجزء الأكثر سكان من نوميديا (69) . إذا كان سكان ” لبدة ” بناء على سالوستيوس ، قد احتفظوا ببعض العادات والقوانين الواردة معهم من صيد نتيجة انعزالهم وبعدهم عن مراكز العمران في نوميديا ، فلم يكن ذلك هو شأن اللغة الفينيقية التي تأثرت باللغة الليبية في مفراداتها و تراكبها اللغوية ، ودخلتها تعابير وأسماء محلية ، اثر وصولها إلى المنطقة لدرجة ، جعلت بعض المختصين في اللغات السامية يعتقدون بأن التعابير والمفردات التي تسربت إلى اللغة الفينيقية في بلاد المغرب لم تكن سطحية فقط ، بل كانت عميقة جدا ، تناولت التراكيب و طريقة النطق بها لدرجة أطلق عليها اللغة البونيقية (70) .

البونيقية إذن ليست هي الفينيقية ، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن” البونيقية ” إن لم تكن تطلق في الفترة الرومانية عن كل ما هو إفريقي وغير روماني ، فتكون صفة بونيقي (pwnicus) مرادفة لليبي (Libycus ) ، مثلما تساءل عن ذلك كورتو(71) اذ نجد في النصوص ما يبعث على هذا الاعتقاد :
1) ماكرزبيوس الصغير ، وهو يتحدث عن لغات افريقيا ، فيقول :
« haben Linguas sermone punico à parte Earamantum , Latino à parte Borae , Barbareico à parte meridiani Aethiopum et Aegytiorum , AC BARBARIS Interioribus Vario Sermoné(72)
” يتكلمون البونيقية في منطقة الجرامانت ، اللاتينية في المنطقة الشمالية ، لغة باربرية في المناطق الواقعة الى الجنوب من بلاد الأثيوبيين والمصريين ، ولغات مختلفة بالنسبة للباربارة الذين يعيشون في داخل القارة .

فالمنطقة التي تستخدم البونيقية هي بلاد الجرامانت ” فزان ” ، هل يمكننا القبول بالبونيقية لغة أهل فزان والصحراء ؟

2) تاريخ أغسطس ، نجد نصا يتحدث عن شقيقه الإمبراطور سبتيميوس التي قدمت إلى روما ، وهي لا تتكلم اللاتينية uix latine loquensr (73) ، وفي نص آخر يتحدث عن الإمبراطور نفسه الذي احتفظ بلكنة بلاده حتى شيخوخة (74)”Afrum quidam usque Qad senectutem sonans “
وقد رأى قوتي بالطبع هي اللكنة ” بونيقية ” اعتمادا على نص آخر يقول أن الإمبراطور يعبر بالبونيقية منها باللتنية أو الإغريقية ” punica eloquentia promtiori(75) هذا في أواخر القرن الثاني الميلادي وأوائل القرن الثالث ، لكن إذا عدنا إلى القرن الأول ، نجد أن أحد أسلاف الأمبراطور لا يملك من صفة البونيقى شيئا ، لا في كلامه ولا في هيئة بناء على شهادة ستاس (76) ، فهل يعقل أن يتكلم الإمبراطور البونيقية في القرن الثالث ، في وقت لا تستخدم من أسلافه في القرن الأول ؟

3) يعتبر القديس أغسطينوس حديث الحوار بين يوم عيد العنصرة (Pente- cote) بكل اللغات ، شهادة على عالمية المسيحية وهو قوى بهذه الحجة يتهجم على الدوناتينين : ” يحبون كثيرا المسيح ، لدرجة أنهم لا يريدون أن يكونوا على صلة بالمدينة التي قتلت المسيح ، و يمجدون المسيح لدرجة الادعاء أن رسالته ، لم تعهد إلا للغتين : اللاتينية و البونيقية أي فقط اللتان يتحدث بها أتباع دوناتوس لا أكثر (77) .

يستشف من النص أن اللغة البونيقية هي لغة الدوناتيين ، والمعروف أن الحركة الدوناتية ، قامت على كاهل الليبيين حتى أن بعض الباحثين أعطوها طابعا عرقيا (78) وبالتالي لا يعقل أن يتكلم كل هؤلاء البونيقية ولا يجيدون الليبية ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ، نجد أن الجزء الجنوبي من نوميديا الذي كان مركز الحركة الدوناتية ما زال يحتفظ إلى اليوم بأحد الجيوب الكبرى للبربرية ، فلا يعقل ان يكون في القرن الخامس الميلادي مركزا للبونيقية التي تختفي تماما بعد ذلك ، وتحمل محلها الليبية . أما النص الذي يتحدث فيه عن الأصل الكنعاني للموريين :” أسال فلا حينا من يكونونم ، يجيبون بالبونيقية أنهم كنعانيون “

Interrgati rustici quid sint , purince respondentes chanani (79)


طبعا لا ننافس هنا الأصل الكنعاني ، حيث يبدوا تأثير ما ورد في التوراة على القديس ، و إنما قوله أنهم يجيبون بالبونيقية ، طبعا المنطقة التي يتحدث عنها القديس أغسطينوس هي الأرياف الواقعة في ضواحي عنبة والجنوب منها ، وهى المنطقة التي عثر فيها على أكبر عدد من النقوش الليبية في كل منطقة شمال إفريقيا ، فضلا عن كونها ( المناطق الجنوبية خاصة ) المنطقة التي مازالت فيها الليبية ، وهو دليل على استخدام الليبية كتابة حية حتى يومنا ، ونطقا ، مما يدل على أن المنطقة ذات عمق ليبي ومازالت حتى الآن ، ولا نجد فيها أثرا للبونيقية .فضلا عن ذلاك نتساءل ، كيف نفسر اختفاء أو بالأدق زوال البونيقية بسرعة من المدن ، حيث كانت سائدة ، وتستمر في الأرياف حيث لم يسبق لها التواجد ؟ ، وهو الأمر الذي يجعلنا نقول أن كل البقايا والآثار ، تبين بدقة في المنطقة التي تشير إليها نصوصنا تنحدر الليبية ، والقديس أغسطينوس لم يشير إطلاقا في كتاباته لمصطلح ” الليبة ” . وفي مجال الكتابة ، إن ما قدم حتى الآن من فرضيات حول علاقة الكتابة الليبية بالكتابة الفينيقية أو البونيقية اللاحقة لها ، لا يشفى الغليل :

1)تشابه بعض رموز الكتابة الليبية والكتابة البونيقية (80) .


S. chaler , S. Hachi , « à paropos l’origine et de l’age de l’ecriture (80 Libico berbere»,Melanges offerts à cal-parass (paris 1994) pp. 120-121
2)الطابع الصامت للالفباء الليبية ، مما يرتبها ضمن الالفباءات السامية (81) .
3) اسم التيفيناع الذي يستعمله الطوارق للإشارة إلى كتابتهم ، الذي يبدوا فيه جذر ( ف ن ع ) أو (ف ن ق ) الذي يشير في رأى هؤلاء إلى اسم الفنيقيين (82).
4) واقع عدم وجود بالنسبة للكتابة الليبية كتابة قبل ألفبائية ، تدل على أننا نظام أصيل (83). هذه الفرضيات لا ترقي الى مرتبة الإقناع لأنه رغم التشابه في شكل بعض رموز الكتابتين الليبية والبونيقية والتماثل النسبي في عدد الحروف ( ثلاثة وعشرون حرفا في الليبية ومماثل في البونيقية ) ، وظلوا الكتابتين من الحروف الصوتية ، غير أن هذا الميل محل اعتراضات قوية ووجيهة أبرزها (84) :

1)الاختللاف الواضح في شكل الحروف ، حيث لا يوجد في الكتابة الليبية سوى حرفان او ثلاثة حروف متشابهة مع الحروف البونيقية(85)


2 ) من خصائص ” الخط الليبي ” أنه ذو أشكال هندسية كالمربع المفتوح والخطوط المتوازية والمتقاطعة والمنكسرة ، بينما يتصف شكل الحروف البونيقية التي نجدها على العديد من النصب بالشكل الدائري السريع (86) .

3)اختلاف اتجاه الكتابة ، فكل نقوش الكتابة البونيقية مثل النصوص السامية ، تكتب في خطوط افقية من اليمين الى اليسار ، بينما النقوش الليبية ، تكتب عموما في صفوف عمودية من الأسفل الى الأعلى والبداية من اليسار (87)

4)أما بخصوص اسم ” التيفيناع ” المستشهد به لإثبات الأصل الفنيقى ” الكتابة الليبة ” فهو قابل للنقاش مادامت تسمية ” فينيقي ” التي يفترض أن اسم ” التيفيناغ “مشتق منها ليست سامية ، لكنها إغريقية ( à ، تدل على اللون الأرجواني ، ووجود في لهجة الطوارق لفعل ” افنغ ” الذي يعنى ” أكتب ” ، حيث نلاحظ جذر (ف ن غ ) أو (ف ن ق ) ، مما يؤكد فرضية الأصل المحلى ، فضلا عن مدلول كلمة ” تيفيناغ ” الذي يحمل معنى الاكتشاف في اللغة الليبية : ( تفى =اكتشاف ، نغ = نا ) ، أي اكتشافنا .

5) تبقى آخر ذريعة يتمسك بها دعاة التأثير ، وهى واقع عدم وجود كتابة ما قبل ألفبائية عند الليبيين ، تستخدم كمرحلة انتقالية بين الكتابة التصويرية والكتابة الهجائية ، وهو ما دفع الكثير من الباحثين إلى الميل إلى البحث عن هذه الحلقة المفقودة ” في الفن الصخري ” الذي يبدو أن خيوط الاتصال بينه وبين الكتابة الليبية البارة محتملة ، ذلك أن هذا التراث الفني قد عرف تطورا واضحا في مجال التجريد والرمزية خلال المرحلة المتأخرة من عصور ما قبل التاريخ ، المعروفة بمرحلة الحصان والعربة ، حيث نجد فني هذه المرحلة ، قد استخدموا مجموعة من الرموز قريبة بشكل كبير من الحروف الليبية ، لا يسبع دان تكون أشكالا أولية لنوع من الكتابة التصويرية ، خاصة أن تلك الأشكال ذات طابع هندسي ( مربعات ، دوائر ، خطوط متوازية ، خطوط متقاطعة) ، تذكرنا بأشكال الخط الليبي المتميز بنفس الطابع الهندسي ، مما دفع قزال إلى افتراض أن عددا منها استخدم دون أي تأثير أجنبي لتشكل ألفباء ليبية خاصة (88)، ونستبعد بالتالي أن تكون الكتابة الليبية تستمد جذورها المخزون المحلى الأصيل.

المراجع :

JUSTIN , XVIII , 61 , 1 (1
GSILL H .A.A. N , T. A , p.462-463; JUSTIN ,XVII,5,14 (2
3) أنظر محمد الهادي حارش ، التاريخ المغاربي القديم ، ص 53 ،JUSTIN ?, XIX, 2 , 4
GSELL, H.A.A.N ,T. 1 , p .464 (4

5)CF G . Camps « Les Numides et la civilisation punique « f » Art . Af ., T . 14 , (1979) p.48
(6  نفس المرجع

JUSTIN , XVIII, 6 (7

8)CF. S Gsell , H.A.A.N , T.1, pp235 -236 ; T.4 ,p.9 ; T.5 , p186 ; J . Dessanges , Rome et la conquête du monde Méditerranéen (264- ), (paris 1978) , p . 651 ; 9G.Camps Aux origines de la berbère , Massinissa ou les débuts de l’histoire ( Alger 1961 ) , p.97 ID, p . 69

Homere , odyssée , 5, p .85 – 89 (10
Heroudote , IV, 187 , 189 , (11
Polybe ,XII , 5 , 3-4 (12
Tite Live , XXIX ,31 (13
Salluste , Bel . JUG . XL VII,XLVIII,LXXV (14
H. Basset , « Les Influens puniques chey les berbere» ,Rev . AF , T. 62(1921 ) , (15 p. 347 .
CF.Gsell , H.A.A.N , T .5 , 62 ,p .199 (16
H. Camps –Fabrer , L’oblivier et L’ Afrique romaine( Alger1953 ) , p . (17

A.DE Candolle , origins des plentes cultivées , (18
Herodote , (19
L. Joleaud , « L’ ncienneté de la fabrication de l’huile d’huile d’olive dans l’Arique(20 du nord» , Rev . AF . , t. 70 , (1929 ) , pp , 19 -39

A.Moret , Le Nilet la civilization Egyptiienne , l’evolution de l’Humanité , ed .(21 Albert Michel , (paris 1857), p .36 .
 22)  نص 450 ، 455 ، ىحول هذا الموضوع أنظر مورى ،ة المرجع السابق ، ص 88 ، رقم 6 ، وص 89 ، رقم 01 .
A .Moret , op . cit . p . 88 note 5-6 (23

24 )  نلاحظ استمرار عادة دهن جباة الأطفال بالزيت عند الليبيين ( المغاربة ) ، خاصة في المناطق الجبلية ، جرجرة والأوراس إلى وقت قريب جدا ـ وربما ـ مازال حتى الآن .
L. Joleaud , op . cit . p .29 ( 25
Toleaud , op . cit , p . 29 (26

Maspero , « La table d’offrante » R. H.R ,T. 35 ,(1897 ) , p .22 (27
H . Basset , opcit , p . 348 (28
(29  نفسه

  1. camps , Massinssa , p . 89(30
    IDEM (31
    H. Basset , op.cit , p .348 (32

IDEM . p .348 (33
BaHendier et trabut , L’Algerie (paris 1892 ) , p . 20 ; SSanta , « Esseri de (34 reconstitution de paysage Quaternairr d’Afrique du nord», Libyca , T. 6-7 (1958 -59 ) , p . 41
Picard (G ch .) , La vie quotidienne à Carthage au temps de Hannibal , ed . (35 Hachette ( paris 1958) , p 89
J . Carcopino , le Maro antiq éd . Gallimard (paris 1943) p .27 (36

  1. F.Decret , M. Fanter ,l’Afrique du nord dans l’antiquité des (37 origines au 5e siecle ed payot ( paris 1981 ) , p . 134 ; G. Camps ,Massinissa , p. 81 et Gsell , H.A.A.N. , , T.4 , p . 14 ;IDEM, T.5, p §.185.
    38) أنظر محمد الهادي حارش ، التاريخ المغاربى القديم ، ص 118 .
    G. Camps , Massinissa , p . 89 (39
    40) أنظر محمد الهادي حارش ، التطور السياسي والاقتصادي في نوميديا منذ اعتلاء مسينيسا العرش إلى وفاة يوبا الاول (203 ـ 46 ق , م) ، دار هومة للطباعة والنشر ( الجزائر ، 1996 ) ، ص 86 ـ 89 .
    H.Basset ; op . cit , p . 345 ( 41

IDEM , p. 349 – 350 (42
IDEM, p . 350 (43
G. Camps , Massinissa , p . 351 (44

H.Basset , op . cit , p . 351 (45
IDEM (46

  1. Basset , op . cit p . 354 . (47
  2. MERCIER , « Les divintés Libyques « f » , R.A.S.C, T.34, (1900) , p. 180 ( 48
    CF.Basset (H.) , influences , p . 366 (49

50)  بعل ـ يدر ( BADR 6IDDER ) مركب من كلمتين بعل الفينيقية التي تعنى السيد أو الإله ، ويدر الليبية التي تعنى ” الحي “
C.I.L. , 19 120(51
Ciceron , De la repblique (52
Herodote ,6,4 , 188 (53

Peganiol (A.) , « La religion et les mouvements AOCIAUX DANS(55 LE (54 Maghreb antique »,cahie d’histoire mondiale , y.3 , (1956 – 1957 ) , p. 817
JUSTIN ,XVIII , (55
PIGANIOL (A.) ,op.cit , p . 817(56
Camps (G .) , Les Numides et la civilization punique , Ant . At . , T .14 ,(1979) ,(57 p . 53

S.Gsell , Histoire dr ancinne de L’Afrique du nord (8 vol .) , éd . Hachette (paris(58   1913 – 1928 ) , T. 4 , p . 231 Peganiol (A.) , op . cit , p.818 (59
DUSSAUD , , Revue de l’histoire des religions , (1920 , p.364 (60

61)  Fevrier (J. G) , « Un Sacrifiee défnfauts chey Les Numides», d’Apres LEGLAY (M.) Saturne Africain , T.1 , p . 419
H. Basset , op . cit , p 359 (62
S.GSELL , H.A.A.N,T .4 , p . 225 (63
H.Basset , op.Cit ,p. 362 (64

A.Berthier, A.charlier , Le Santuaire punique d’El-Hofra àConstantanfine (paris (65 1955) , insvreption 3 pl .27 A.

66) نفسه ، ص 9.
67) أنظر محمد الهادي حارش ” حول أصول عبادة آمون في المغرب القديم ” مجلة الدراسات التاريخية ،  ، (1981)، ص 4.

(68 CF . M uller ( ) , NUMISMATIQUE DE L’ancienne ( cyrenaique) , t . 1 , p 100 n° 1

Sallustius , Bel . JUG. LXXVIII (69
Faidherbe « Epigraphencinne et Numidique » ,R .AF,(1973) ,p .58 (70

(71  Courtoi(c. ) « Saint Augustin et le problléme de la survivance du punique » Rev . AF, T.94 ; (1950) , p .266 .
(72  Arnobe (L jeune) , Com in salmos , civ dans p.L.T.LIIIcol . 481 D’apres courtois , Loc.cit . p .

Histoire Auguste , vita severi,XV,7,265 (73
ID, XIX ,10 (74
Epitome de Caesaribus ,xx , 8 (75
Stace , silvae, ,45 (76

Courtois (ch .) , op.cit , p .276 (77
(78
Epist ad Romanes , D’apres courtois , op . cit , p . 279 (79

ID , p.122 (81
G. Camps , « Eeriture Liibyque»Encyclopedie bérbére , XVII, (1996) , p . 256 (82
S.CHAKER, S. Hach, op . cit , p . 117 (83
CF S .GSELL,H.A.A.N, t6 , p .105 -106 (84
G. Camps ,opcit , p 25 96; S. CHAKER, S. Hachi , op.cit , p . 120 -121 (85

86 )  قارن بين الألفباء الليبية والبونيقية في شكل رقم واحدص27 .
CF G. Camps , op .cit , p 2569 (87

S.Gsell , H.A.A.N ,T.6 , p 106 (88

Exit mobile version