الأمازيغ بين الدونتة والخورجة.
قربُ بلاد الأمازيغ من الدول الطامحة للتوسع قديما وحديثا ، شكل من ساكنتها شعبا صلدا ومقاوما شهما لكل أنواع الإستدمار بشكليه المعنوي والمادي ، حتى قيل عنه بأنه (شعب مبارز ) أو (شعب محارب ) طوال الأزمنة التي رافقت تواجده في هذا الحيز المكاني الجغرافي الذي تقلبت تسمياته تبعا لتأثير الوافدين عليه .
المقاومة التي يتناغم فيها الفكر الديني والسياسي هي أفصح المقاومات ، لأن المقاومة (فيها وبها ) تنشد مآلا مقدسا ،وحلما مسطرا في كتب الدين وسجلات القوانين ، غير أن تحقيقه في دنيا الواقع وعدا بلا وفاء ،وأمرا بلا تطبيق ، وعهدا بلا تنفيذ ، وهي ظاهرة مستحكمة بين الحاكم والمحكوم إلى أبد الأبدين .
صحيح أن ديانات السماء اُنزلت لإصلاح العقيدة و الإعوجاج ، وإرساء معالم الأخوة والمحبة ، والقضاء على مظاهر الحيف والتمايز بين الآدميين إلا بما هومشروع ، غير أن تحويل تلك الأماني والمعاني إلى واقع معيش يحتاج إلى رجال أقوياء لا يخافون في الله لومة لائم على شاكلة ( عمر بن الخطاب) أو ( وعمر بن عبد العزيز ) …وغيرهما قليل .
من بين مظاهر التمايز بين ما يُقال ويُفعل ، وبين ما يبطن وما يظهر ، هو ما وقع في بلاد ( تامزغا الكبرى ) من حرب ضروس ومقاومة شرسة في فترتين متباعدتين زمنا ومتشابهتين شكلا ومضومنا بسبب التباعد بين المؤمول المعلن ، ودناءة التطبيق والممارسة في دنيا الواقع .
فالظاهرة الأولى تعرف في تاريخنا( بالدوناتية أوالدوناتيزم ) حدثت ابان الإستدمار الروماني ، والثانية بالخوارج (الصفرية والإباضية ) وحدثت أيام الهيمنة الأموية على بلاد المغرب ا لإسلامي خلال النصف الأول من القرن الثاني للهجرة .
1) الدونتاتية في افريقية :
هي تمرد في ( كنيسة إفريقية ) ضد البابوية ، بقيادة الأسقف الأمازيغي ( دونات ) ذو الملامح القيادية حسب ما يشير إليه جوليان ( بأنه مصارع رهيب ، تتجمع في شخصيته عناصر القيادة والتنظيم والإستقامة العقائدية ، وهو خطيب مفوه ، ومقاوم صلب ، مكوّن للرجال ، قاسيا على نفسه قبل غيره ، كان الأساقفة يعبدونه كالإله ..) .
السبب المباشر المفجر للتمرد ، رفض ( الأسقف دونات ) الإعتراف بالأسقف الجديد ( سيسيليانوس) بدعوى الشك في عقيدة من اختاروه بتهمة تحويل ممتلكات كنيسة قرطاجة المعنوية والعينية لفائدة الأمبراطورية الرومانية ، فحدث تحالف (بابوي مع الأمبراطورية الرومانية ) ضد كنيسة قرطاجة واتباعها من الأسقف دونات .فالخلاف بين الأمازيغ والرومان ظاهره مذهبية داخل حرم الكنيسة ، وخفيه سياسة وحكم ، أو قل إن شئت سياسة في قالب ديني ، أو توظيف الدين من أجل تحقيق استقلال وطني بوجهيه الديني و السياسي ، وما يليه من تحقيق مطالب اجتماعية كالتي حدثت فيما بعد أيام ثورة الزنج أيام خلافة العباسيين ، أو هي شبيهة بثورة ( روبين دي بوا ROBIN HOOD ) الأنجليزي في صورتها الإجتماعية . وقد تنبه المؤرخ الفرنسي ( جورج مارسييه georges MARCAIS) لذلك قائلا :(بأن الجانب العقدي كان غطاء لحقيقة نزعة الاستقلال عندالأمازيغ ، لذلك اعتنقوا المذهب الدوناتي ،لا لخلاف في الرأي حول مسائل لاهوتية، بل لإشعال حرب اجتماعية تحت راية دينية.).
كانت مظاهر الدوناتية واضحة المعالم في كبح الإسترقاق ، ومسح الديون ، وتحرير العبيد ، وتحقيق مبدأ تكافأ الفرص بين الرعية وتحقيق المساواة بين المريدين والأتباع .ولو بانتهاج سياسة النهب المنظم لممتلكات الأغنياء لتوزيعها على الفقراء والمعوزين على شاكلة (روبين هوود ، Robin des Bois ) ،لهذا كثيرا ما يوصف أتباع دونات ( بالدوارين ) أو ( الجوابين ) .
عاشت بلاد ( تامزغا الكبرى ) طيلة القرن الرابع الميلادي أحداثا مرعبة و حالة فوضى و انتقام رومي ضد الأمازيغ بتهم تلفيقية ناقمة من قبيل (الهرطقة )، ( الكفر والمروق دينيا ) و(الإنفصال سياسيا ) ، وإصدار مراسيم ردعية بزيادة الضرائب وحجز الممتلكات وحرمان الدوناتيين من دخول الكنائس باعتبارهم خارجين عن الملة ، رغم محاولات القديس سانت أوغسطين درأ الخلاف بالحسنى والوئام إلا أنه فشل ، كان لذلك تأثير سلبي على الحياة العامة داخل روما وخارجها بسبب زيادة انتشار المروق ونقص في المؤن خاصة ( الزيت والقمح ) اللذان مصدرهما الأساس بلاد الأمازيغ .
قام جيش الرومان بحرب إبادة واستنزاف طويلة المدى ضد ( الأمازيغ الدونات ) الذين أظهروا ضروبا من الشجاعة والإقدام والبلاء في مقارعة الإستعمار ، بشكليه المذهبي والعسكري ، وإن مني الدونات بالخسران العسكري أمام جبروت الرومان ، إلا أن فكرهم الثوري التمردي بقي منغرسا في وجدان أحفادهم و أعقابهم إلى يوم يبعثون .
2) الخوارج في المغرب الإسلامي :
دخل الإسلام بلاد الأمازيغ في القرن السابع الميلادي ، أي بعد حوادث الدوناتيزم بثلاثة قرون ، وبعد لأي ومقاومة ، شابها مد وجزر للإسلام على مدار أزيد من السبعين عاما ، ليس رفضا للإسلام وإنما بسبب عجز الغازي عن تمثل معانيه السمحة وتحويلها من آيات جامدة صامتة إلى واقع حي يساعد الأمم حديثة العهد بالإسلام الإقدام وليس الإدبار ، أو القبول وليس النفور ، لأن الأمم الأعجمية ليست بقادرة على فهم الإسلام إلا من خلال الناشرين له من دعاة ومصلحين يكونون قدوة ونعمة، والأمم بطبعها تحكم على الأمور تبعا للأفعال المقترفة وليس للنوايا المعلنة في ثنايا الكتب المقدسة ، وهنا يكمن الخلل الأعظم ،راجع بحثي القصير عن ظاهرة الخوارج في المغرب الإسلامي بعنوان ( ثورة الأمازيغ ضد أعراب بني أمية ) (الرابط : هنا)، هو الفارقة التي أظهرت لي الفرق الشاسع بين الإسلام الحقيقي والإسلام السياسي ، وأبانت أن الدول الإسلامية في غالبها لا تحمل من الإسلام سوى الإسلام ، فهي دول نفعية همها مجد السلطان والجاه والمال والتوسع .
تمكن الإسلام من قلوب الأمازيغ ردحا من الزمن وبعد جهد ذاتي أو على يد بعض العرب المسلمين من ذوي الإيمان الصادق قولا وفعلا ، فانخرطوا في جيشه فكانوا رأ س حربة في إيصال الإسلام إلى ربوع (فاندلوسيا ) التي غدت (أندلسيا )بمجرد أن وطأ (طارق ابن زياد ) أرضها أميرا على جنده الأمازيغ .
الإسلام لا تمايز فيه إلا بالإيمان والتقوى هكذا المبدأ … ، غير أن حكم الأمويين بالمغرب أظهر خللا في التطبيق ، خاصة بعد جنوح الأمازيغ لقبول فكر الخوارج بعد انتشاره بينهم ، فكان مبدأ الشورى الديموقراطي في الحكم هو ديدن الأمازيغ والخوارج على حد سواء ، فقد اجتمع الفكر الخارجي والبأس الأمازيغي في إخراج المذهب الخارجي للوجود ( الدولة الرستمية )، بعد عجز رافقه مشرقا على أمد بعيد منذ نكسة النهروان ، وإن كان الخليفة علي كرم الله وجهه قد أوصى بعدم قتالهم ( لأنه ليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه ) . وقال أيضا ( إن خرجوا ( أي الخوارج )على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم في ذلك مقالاً وقال لا تجادلوهم بالقرآن ….. فالقرآن حمال أوجه …
الأمازيغ كانوا يعتقدون بأن الإسلام مخلص ومعتق من براثن القهر والعبودية ، وكانوا يعتقدون أن مشاركتهم في نصرة الإسلام ونشره كفيلة بمنحهم الحق في تسيير أمور بلادهم ، واتضح أن رجاءهم قد خاب بعد ظهور تطبيقات الإسلام على يد الدولة العضوض ، ويتضح نجاح الفكر الخارجي عند الأمازيغ لأمور هي : ***احتقار العرب المسلمين للأمازيغ الأعاجم ، وعدهم فيئا للمسلمين وهو ما أشار إليه الرقيق القيرواني بقوله (.. وكان ابن الحبحاب قد ولى طنجة وما ولاها عمر بن عبد الله المرادي ، فأساء السيرة وتعدى في الصدقات والقسم ، وأراد أن يخمس البربر، وزعم أنهم فيء المسلمين وذلك مالم يفعله عامل قبله…..) ،فجشع خلفاء بني أمية في طلب تحف وطرائف المغرب من الحلي والمتاع والجواري والغلمان الحسان ،توافق الهوى بين الأمازيغ والفكر الخارجي ، فالخارجية في حاجة إلى عصبية ، والأمازيغ في حاجة إلى مدد فكري إسلامي يغذي روحهم الإستقلالية داخل البيت الإسلامي .
لا سبيل لاستقلال الأمازيغ عن الخلافة في دمشق ، سوى الأخذ بدعوة الخوارج التي ينص دستورها على أنه إذا كان لابد من الخلافة فأصلح الناس لها أحق بها، قرشيا كان أو غير قرشي، عربيا أو غير عربي ، وجواز الخروج عن الخليفة الجائر .
فشل الوفد الأمازيغي بقيادة ميسرة المطغري ( المدغري) في مقابلة الخليفة الأموي بدمشق لتقديم فحوى التجاوزات والتظلمات التي سجلت في عهد واليه ( ابن الحبحاب ) على الأمازيغ .
انتصار الخوارج الصفرية ضد جيوش الوالي الأموي ( ابن الحبحاب ) زاد من انتشار الثورة وذيوعها وهو ما رفع سقف الطموح إلى تحرير كامل المغرب من قبضة بني أمية ، وهو أمر احتاط له الأمويون بكامل الجدية ، فجمعوا جموعهم لسحق الخوارج الصفرية ، قُتل القائد الصفري ميسرة ، وخلفه ( خالد بن حميد الزناتي ) الذي خاض معركة كبيرة ضد الأمويين قرب الشلف سميت ( بغزوة الأشراف ) لكثرة الأشراف الذين سقطوا فيها ، وثار أمازيغ الأندلس ضد عقبة بن الحجاج السلولي ، ونظرا لكثرة الثورات والتمردات أسقط الوالي ابن الحبحاب من سدة ولاية المغرب بعد اجتماع كبير لأعيان القيروان .
اتساع آفاق التمرد ، وطغيان النزعة الإستقلالية عن الخلافة بسبب عنتها وقسوة ولاتها أخرج بلاد المغرب من قبضة مركزية ( دمشق وبغداد ) تباعا بظهور دول مستقلة فيه (كالأدريسية والرستمية والفاطمية ) بزعمات مشرقية و عصبية أمازيغية .
كانت ثورة الأمازيغ في مجابهة الطغيان الأموي شبيهة بثورة الزنج ضد الاستعلاء العباسي ، فكلاهما منشغل باعادة الإعتبار للإنسان تبعا لتعاليم الرحمن ، وكلاهما جوبه بالقوة العسكرية وليس الحصافة الفكرية والإقناع بالحجة . ولمزيد من المعرفة حول ثورة الزنج بأبعادها الإجتماعية إليكم هذا الرابط بعنوان ” ثورة المظلوم على الظالم “
استنتاجات :
على ضوء هاتين الثورتين المتباعدتين زمنيا ، المتقاربتين في المضمون الثوري ، تترآى لنا خصوصيات الأمة (المغاربية ) بايجابها وسلبها ، وهي صفات تترآى في مجتمعنا بأصدق التجليات ، ومن خلال تفاعلي مع الأحداث استخلصت الآتي وقد يكون ذلك مصدر وفاق واتفاق أو اختلاف .
هذه الدينامية الثورية والمقاومة الصلبة رافقت الأمازيغ طيلة سجلهم التاريخي الطويل ضد الغزاة و الوافدين بدأ من الفينقة وصولا إلى الفرنسة ، مرورا بالرومنة ، والوندلة ، والعربنة ،والتتركة ، تعددت دواعي الاستدمار وأساليب الهيمنة ، غير أن النواتج واحدة هي إذلال المحلي وسحقه وإعلاء مكانة الوافد وتقديسه .
تحقيق غاية الخصوصية ونشدان الحرية عن المركز ا(لسياسي أوالديني ) منشد الأمازيغ منذ أن وجدوا في هذه البسيطة ، فالتطرف في العقيدة وصلابة المقاومة والشجاعة إلى حد الشهادة هي سبيل لتحقيق تلك الغاية .
غنى بلاد الأمازيغ بالثروة وسذاجة أهلها جعلها مطمع كل طامح ، وملاذ كل مهاجر ، وكثيرا ما تحولت سذاجتهم وبساطتهم إلى مقاومة عتيدة عندما يكتشفون زيف شعارات الوافدين جراء تصادمها مع الواقع ، فينشأ حائط صد مقاوم جعل من الأمازيغ (أمة محاربة ) طول الزمن ، فانشغالها بالدفاع والمقاومة ألهاها عن القيام بشؤونها وخصوصياتها الثقافية والحضارية .
تقديس الأمازيغ للحرية والعدالة الإجتماعية فطرة فيهم ، تحقيقها يجعلهم مستقبلين مرحبين بالمذهب الأكثر عدالة وإنصاف في تقديرهم لا تقدير غيرهم ، وهو التفسير اللأئق لنجاج الدوناتية والخارجية بين صفوفهم .
يقدسون الدين باعتباره مثلا عليا سامية للتحرر والإنعتاق ، وعندما يتبين لهم النشاز بين التنظير والتطبيق ، يلتجؤون إلى المقاومة باستخدام الدين نفسه على شاكلة ما فعله القس دونات ، أو ما فعله غلاة الصفرية .( المقاومة بالدين ضد التمييز والعسف والإستغلال …) في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع ، وهو ما يظهر على شكل تمردات وثورات ، شبه لما يحدث اليوم من مظاهرات واحتجاجات وتمردات تصل حد العصيان المدني والثورة .
قد يكون المؤرخ (شارل أندري جوليان ) مصيبا في مقاربته بين الدوناتية والصفرية الخارجية بقوله : ( الدوناتية كانت وسيلة لوضع حد لانتهازية الكاثوليك، وتحالف الرومان مع كبار الملاك ورجال الدين، كما كان مذهب الخوارج في المغرب سلاح البربر للتحرر من التبعية للخلافة العربية، وتعبيرا عن السخط والحقد علي السلطة القائمة ) .
المهيمن المتجبر لا يتوان في وصف الثائر المتمرد على واقع الحال بشتى صنوف آيا ت التحقير والتهجير ، فالدونات ( هراطقة وخونة ) ، والخوارج (غلاة دمويون عصاة ) ، وعلي بن محمد ( صاحب ثورة الزنج ) لا يذكر إلا موسوما بصفة ( الخبث والمروق والفسق والخيانة)، أما ميسرة المدغري فاسمه لا يأتي إلا مقرونا (بالسقاء ، والحقير ، والفقير ……) فكل مخالف أو خارج عن القطيع يوصف بأوصاف قدحية تبخيسا له دونمحاولة لفهم دواعي عقوقه ، إنها بروباغندا الأقوياء ضد الثائرين مهما كان نبل تمردهم ، وما نشهده اليوم ونقرأه عن وصف الحكام للثوار ماهو سوى إحياء لصيغ الماضي وأساليبه في قهر (المتمرد الثائر) الذي ينأى بنفسه عن السير ضمن القطيع .
3)نهاية الحكاية …….وعقدة النهاية :
الحركات المذهبية في عمومها ليست بريئة في دعوتها ، فهي ليست خلاف ديني فحسب ، وإنما هي حاملة في باطنها لأبعاد غير معلنة ، سياسية سلطوية ، ونزعات قومية ، وآفاق اجتماعية واقتصادية ، فالخلاف الديني هو مظهر لكسب المريدين والأنصار لبناء عصبية مضادة تحقق السلطة والمنعة .
بقلم الأستاذ : الطيب أيت حمودة
المصدر : الحوار المتمدن