التاريخ القديم

قراءة تحليلية لأسباب الحروب البونيقية ( من منظور المصادر الاغريقية ـ اللاتنية القديمة *)

ملخص البحث :
    كانت الحرب البونية بين روما و قرطاجة , امرا مقضيا , فرضته تفاعلات الاحداث بين قوتين قطفت احداهما مرحلة متقدمة من السيطرة على الحوض الغربي للمتوسط , بينما استكملت الاخرى مرحلة بناء قوتها بعد السيطرة على شبه الجزيرة الايطالية , فكانت سيطرة روما على عدد من المستعمرات الاغريقية في جنوب ايطاليا ( اغريقيا – العظمى ) , ان وضعتها على خط الاحتكاك المباشر مع قرطاجة في صقلية , وكان لا بد من الصدام بين الطرفيين من اجل التوازن بادئا ثم التوسع لاحقا.
هذا الصدام الذى بحث له القدامى عن الاسباب و المبررات لإدانة هذه الطرف او ذاك , و خاصة الطرف البونيقى الذى سميت الحروب باسمه ذلك اشارة الى كونه المتسبب فيها .

     ظلت العلاقات القرطاجية ـ الرومانية ، تتسم بكونها علاقات ودية، وعلاقات تبادل تجاري وتحالف عسكري ، وذلك منذ القرن السادس ، وظلت كل منهما منشغلة بأمورها : كانت قرطاجة قد ضاعفت المحطات على طول سواحل شمال افريقيا ، وكونت منطقة تأثير حقيقية في الحوض الغربي للبحر المتوسط ،حيث تمارس احتكارها التجاري على خط اسبانيا ، سيردينيا وشمال افريقيا ، اذ نجد في الجنوب والجنوب الشرقي من اسبانيا ( قادس ، مالقا ، أباديرا ، باريا ) في مالطة وفي سردينيا منذ القرن السادس ومنذ القرن الخامس في جزر البليار على جزيرة ايبيزا و في كورسيكا ، كانت تسترجع شيئا فشيئا سلطتها بعد أن أبعدت القراصنة الفوسيين ، الذين هددوا سواحل ايطاليا و سيردينيا بفضل التحالف مع الاترورين و الانتصار في معركة ألاليا سنة 535ق م ، وفي شمال افريقيا من موانئ السيرت الكبير ( لبدة ، صبراتة، أويا ) والعديد من الموانئ في تونس الحالية والجزائر حتى ليكسوس بالمغرب الأقصى . وظلت صقيلية تشكل ” بؤرة ” الصراع الدائم مع المدن الاغريقية في وسط وشرق الجزيرة (اقريقنتوم وسرقوسة بالخصوص ) ، فبعد هزيمة “مؤلمة ” وفق تعبير البعض في هيميرا سنة 480 ق م ، تدخلت ثانية سنوات 408 ـ 405 ق م ، ودمرت هيميرا وسلبت اقريقنتة ، وحاصرت جيلا ، هذه العودة القوية لقرطاجة ، يسرت عودة حكم الطغاة في العديد من مدن صقلية، خاصة سرقوسة ، وهكذا ظهر دونيس الكبير( طاغية سرقوسة 405 ـ 367ق .م ) كمحرر لصقلية ، وقاد ثلاث حروب ضد قرطاجة ( 398 ـ 392 ، 382 ـ 375 ، 368 ق .م ) ليوقع في الأخير على معاهدة 405 ق . م ، وبعد نقض المعاهدة سنة 382 ق م ، ، تجدد القتال بين الطرفين ( 382 ـ 375 ) انتهى بعقد معاهدة سنة 374 ق. م التي تعيد الحدود الى نهرى هيميرا في الشمال وهاليكوس في الجنوب ( 1) .

     على اثر وفاة دونيسيوس سنة 367 ق م ، أخذ قادة أخرون المشعل لطرد القرطاجيين من الجزيرة ، فبعد تيميليون الكورنثي ( 344 ـ 337 ) الذي أحرز نصرا على نهر كريميسوس سنة 340 ، جاء أغاثوكليس ( 317 ـ289 ق .م ) ، الذي نقل الحرب الى افريقيا 310 ، لكنه اضطر الى توقيع على معاهدة 305 ق ـم ، وأخيرا بيرهوس ( pyrrhus) سنة 280 ، ملك ايبيروس ، الذي نزل في ايطاليا الجنوبية ، بطلب من ترنتة ضد روما ، وغامر في صقيلية استجابة لنداء الاغريق278 ق م ، ورغم بعض الانتصارات ، فقد انهزم في معركة بحرية فقد فيها ثلثي اسطوله قبل العودة الى ايطاليا سنة 276 ق م . ( 2) أما روما ، فكانت منشغلة بأمور شبه الجزيرة الايطالية ، حيث تعيش فسيفساء حقيقية من الشعوب والثقافات واللغات ( الأتروسكية ، الاغريقية ، اللاتينية والاوسكية ) ، كانت تتعايش في وضعيات قانونية مختلفة ، فهناك من حصل على حق ” المواطنة الرومانية “، وهناك ” الحلفاء ” الذين وقعوا معها معاهدات من هؤلاء اللاتين ، الذين تمتعوا ببعض الامتيازات، وكانت روما فضلا عن ذلك قد أسست العديد من المستوطنات ، كانت تشكل في نفس الوقت مراكز ” للرومنة ” وجسور عبور على أراضي شبه الجزيرة ، وكان الاستيلاء على ترنتوم (272 ق . م وبعدها ريجيوم سنة 270 ق .م في أقصى جنوب ايطاليا ، قد وضع المدينتان وجها لوجه (3) . اذا كانت توجد منذ فترة طويلة ، علاقات تحالف عسكرية وتجارية أكدتها عدة معاهدات بين الدولتين (4) ، فإن تدخل روما في صقلية 264 ق . م استجابة لنداء المامرتيين ، سكان مسينا ، قد فتح نزاعا طويلا مع قرطاجة ، وهو ما أطلق عليه تعسفا ” الحروب البونيقية ” . هذه الحروب التي جعلت الكثير من الباحثين يتساءلون ان كانت روما بتدخلها في صقلية ، قد خرقت معاهداتها السابقة مع قرطاجة ، وبالتالي اعتبارها هي المسؤولة عن حرب صقلية، أم أن قرطاجة هي أول من خرقت فعلا تلك الاتفاقيات عندما تقدمت بأسطولها سنة 272 نحو ترنتوم ؟

    تختلف مصادرنا حول عدد وتاريخ هذه المعاهدات التي يمكننا أن نضع أولها مع قيام الجمهورية في روما سنة 509 ق .م ، أما المعاهدات الاخرى ، فتعود بدورها الى سنوات 348 ـ 306 ـ ، وأخيرا 278 ق .م أثناء تدخل بيرهوس في جنوب ايطاليا وصقلية ( 5 ) . ولا شك أن هذه المعاهدات قد رسمت مناطق النفوذ بين المدينتين في غرب المتوسط ، فكان لقرطاجة مناطق شمال افريقيا جنوب اسبانيا وسيردينيا ، ولروما ايطاليا ، حيث عملت على ابعاد القرطاجيين ، وبذلك تبقى ” المسألة الغامضة ” في هذه العلاقات الدبلوماسية هي ” صقلية ” ، التي لا نعرف ان كانت هناك مادة تعترف بالسلطة البونيقية على الجزيرة كاملة أو على الجزء الغربي من الجزيرة ، الخاضع أنداك للبونيقيين فقط ؟ وان كانت خصوصا تمنع على الرومان التدخل مثلما كانت ايطاليا ـ على الأقل الجزء الذي مدت عليه روما سيطرتها ـ ممنوعا على القرطاجيين ؟ اذا صدقنا المؤرخ الأقرقنتي ” فيلينوس ” تكون هذه النقاط منصوص عليها في معاهدة 306 ق . م الموقعة بين الطرفين عندما كانت روما تحارب الاتروسك والقرطاجيون يحاربون أغاثوكليس حليف الرابطة الاتروسكية ، اذا كان ذلك هو رأي فيلينوس ، فإن بوليببيوس ، الذي يبحث عن تبرئة الرومان من مسؤوليات هذه الحرب ، ذهب حتى انكار وجود هذه المعاهدة ( 6) ، خلافا للمؤرخين الرومان : تيتوس ليفيوس ، ديون كاسيوس وأورويسيوس ، الذين لم ينكروا وجود هذه المعاهدات ، لكن اعتبروا قرطاجة هي الأولى من تخلت عن تلك الاتفاقيات عندما تقدمت سنة 272 بأسطولها نحو ترنتوم ـ ربما ـ لدعم التارنتيين عندما كان الرومان يحاصرون المدينة (7) ، وهي حلقة اختلقها هؤلاء بدورهم لتبرئة روما، لكن حديثا يميل معظم المؤرخين الى رأي فيلينوس. هذا حول من البادئ بالحرب البونيقية الاولى ، أما الحرب البونيقية الثانية (218 ـ 201 ق م) ، التي سماها بوليبيوس ” حرب حنبعل ” اشارة الى كون هذا الأخير هو المتسبب فيها ( 8) ، اذ كانت ” روح الانتقام ” بالنسبة له ، مثلما بالنسبة لتيتيوس ليفيوس الذي ينقل عن بوليبيوس ، هي التي (9)تحرك آل برقة وبالخصوص حنبعل . اذا كان فابيوس بكتور، يرى في تصرف حنبعل فعلا معزولا لم يحظ بدعم الدولة القرطاجية، فإن بوليبيوس ، يرى مسؤولية السلطات القرطاجية كاملة (10) ، خاصة وأنها التزمت بموجب معاهدة لوتاسيوس كاتالوس (241 ق م ) ،ألا تعتدي على روما وحلفائها ،وقد اعتدت هنا على ساغنتوم ، كما التزمت بموجب معاهدة الابرو سنة226 ق .م ، ألا تجتاز هذا النهر ، وهو ما قام به حنبعل (11) .

     هذا موقف بوليبيوس حول جذور الحرب البونيقية الثانية ومسؤولية قرطاجة وحنبعل فيها ، أما أبيانوس مثلما فعل قبله ديودور الصقلي ، فقد أشار الى تأثير الصراعات الداخلية والنقل الشعبي على سياسة آل برقة في اسبانيا ، حيث لاحظ غياب دعم السلطات القرطاجية خلال الفتوحات الأولى (12) ،لكن الوضعية تغيرت تماما مع حنبعل الذي لم يكسب فقط دعم السلطات والشعب القرطاجي ، مادام قد سعى من البداية الى القضاء على الهيمنة الرومانية ، مما يجعل حنبعل وقرطاجة يتحملان مسؤولية ثقيلة ( 13) . بهذا الموقف يقترب أبيانوس من بوليبيوس الذي يعود بجذور الحرب البونيقية الثانية ( 218ـ 201ق .م ) الى نهاية الحرب البونيقية الأولى ( 264 ـ 241ق ـ م ) ، حيث يشير الى عدم تقبل هاميلكار الهزيمة مادامت قواته في جبل ” أريكس ” ، لم تصب بأذى ، وظلت معنوياتها عالية ، لكن الارستقراطية القرطاجية هي التي انهارت بعد الهزيمة في معركة ” ايقاتس ” البحرية ، وان أذعن للأمر الواقع ، فقد ظل على موقفه يترصد الفرصة للانتقام من الرومان ، خاصة بعد نجدة روما لمرتزقة سيردينيا وفرض انسحاب قرطاجة من هذه الجزيرة (14)، الأمر الذي أثار سخط ونقمة القرطاجيين من ناحية وزاد في نمو ” الحس الوطني ” من ناحية أخرى ، اذ فجر الظلم الصارخ بالحاق سيردينيا وكورسيكا مع فرض غرامة حربية اضافية على قرطاجة روح الاعتزاز الوطني لدى البونيقيين الذين اقتنعوا باستحالة أي اتفاق دائم مع روما (15) . مع كل هذه الأحداث البعيدة ، التي يجعل منها بوليبيوس أسبابا للحرب ، تبقى الاشارة الى الطفل حنبعل ذي تسع سنوات الذي يقسم لوالده : ” آلا يكون صديقا أبدا للرومان ” (16) ، هذه الحادثة التي نجد صداها عند مختلف المؤرخين القدامى (17) ، فكان وفق كورنيليوس نيبوس ، كره هاميلكار برقة الأبدي للرومان سبب الحرب البونيقية الثانية ، اذ دفع بأسراره المستمر ابنه حنبعل على ” تفضيل الموت عن التخلي عن مواجهة الرومان ” بل أكثر من ذلك ، فحسب نفس المؤرخ ، كان هاميلكار يفكر في نقل الحرب الى ايطاليا لولا ان عاجله الموت (18) ، أما فلوروس ، فكان أكثر وضوحا عندما أشار الى قسم الطفل واستعداده لخلق أي مبرر للحرب :” كان حنبعل الطفل قد أقسم لوالده ان يثأر لوطنه ، وأنه لن يتوانى في ايجاد ذريعة الحرب ” (19) . وأشار أبيانوس بدوره الى قسم الطفل لوالده أنه سيكون :” عدوا أبديا لروما ” ، وأنه دبر مشروع نقض معاهدة الابروا ، باتهام الصاغنتيين بالتآمر ، فاجتاز هذا النهر ودمر صاغنتوم ، وبذلك يكون حنبعل قد خرق معاهدة 226 ق .م والمعاهدة التي عقدت بين الرومان وقرطاجة بعد حرب صقيلية ( 20) .

   هكذا نلاحظ ان السبب المباشر للحرب البونيقية الثانية ، هو احتلال مدينة ” صاغنتوم ” ، لكن وراء هذا الاحتلال ” الحقد ” الدفين لآل برقة والرغبة في الانتقام من روما ، وبذلك يمكننا ان نلاحظ في هذه المواقف اجتماع على :

1) عدم تقبل هاميلكار الهزيمة في الحرب البونيقية الأولى ، وقد خرج من الحرب للاستعداد لحرب أخرى لولا ثورة المرتزقة والنوميديين التي أجلت مشروعه (21) ، وقد زاده ومواطنوه تدخل روما في سيردينيا وشروطها المذلة لقرطاجة والمجحفة في حقها ، كرها ورغبة في الانتقام ، مما جعله يسعى الى التوسع في اسبانيا لإعادة بناء قوة قرطاجة (22) .
2) تمكن هاميلكار من نقل هذا ” الحقد ” و” الكراهية ” الى الطفل حنبعل الذي حملوه ب ” الاجماع ” مسؤولية الحرب البونيقية الثانية ، حتى ان بوليبيوس سماها ” حرب حنبعل ” ، اشارة الى كونه المتسبب فيها (23 )
3) كان مشروع التوسع في اسبانيا معد بكل تفاصيله من آل برقة بهدف ” الانتقام ” بل أكثر من ذلك لم ينظروا الى النزاع على أنه نزاع اقليمي ، بل هو مسألة ” حياة أو موت ” ، وبالتالي فهو نزاع من أجل البقاء بادئا ثم السيادة والهيمنة لاحقا(24) . اذا كنا نرى أن هذا النزاع تجاوز فعلا الابعاد الاقليمية الى صراع حول السيطرة والهيمنة على غرب المتوسط ، وهو مسألة طبيعية لنمو المدينتين، وتزايد نفوذها ، لكن إذا نصت معاهدة لوتاتيوس بناء على ما يذكر بوليبيوس على عدم الاعتداء بين الدولتين وكذا على حلفاء كل طرف (25) ، فإن معاهدة الايبرو (226ق.م )(26) ، تطلق يد البونيقيين الى الجنوب من هذا النهر ، وتحظر عليهم أي عمل عسكري الى الشمال منه ، ولا تحتوي أي بند ينص على استثناء “صاغنتوم “


    الواقعة على بعد مائة وثلاثين كيلوميترا جنوب هذا النهر (27) ، وان كانت حليفه لروما بناء على ما تشير اليه مصادرنا ، لكن لا ندري متى أقيم هذا التحالف، ان كان قبل معاهدة الايبرو أم بعدها ؟ اذا كان هذا التحالف قد تم قبل المعاهدة المذكورة ، فكان يجب ادراج بند ينص على استثناء هذه المدينة ، أما اذا كان الامر قد وقع بعد ذلك ، فإن نوايا روما لم تكن بريئة ، وتكون قد أقلقتها انجازات آل برقة في اسبانيا ،وهي الانجازات التي أكدت عليها جل مصادرنا (28) ، وتكون روما بالتالي ، تبحث عن موضع قدم لها في شبه جزيرة ايبيريا ، بإثارة القلاقل لقرطاجة ، هذه القلاقل التي اشار اليها حنبعل في مراسلته لمجلس شيوخ قرطاجة بناء ما يذكر أبيانوس ، الذي يشير الى تذرع حنبعل حسب تعبيره في تلك المراسلة أيضا بتحريض الرومان سريا للاسبان للثورة على قرطاجة ( 29) . مهما يكن الأمر ، قد تكون فعلا روما حرضت الاسبان ،وقد سبق لها ارسال فرقتين لمساعدة الصاغنتيين الموالين لها أثناء خلافهم مع الموالين لقرطاجة سنتي 223 و 222 ق .م، وتمكنوا بفضل هده المساعدة من التنكيل بأنصار قرطاجة ، وهو ما دفعهم الى التمادي في موقفهم ، ودفع انصار الاخيرة الى الاستنجاد بحنبعل ، في الوقت الذي استعان فيه الاوائل بروما (30) ،وهذا حتى تجد روما مبررا للتدخل اسبانيا لإعاقة مشاريع آل برقة ، ويكون حنبعل بدوره قد استغل فرصة انشغال روما بحروبها في ايليريا من ناحية ويقينه من ناحية اخرى ان روما ستتدخل في اسبانيا بمجرد انتهاء الحرب ، بحثا عن تحقيق الهيمنة والسيادة الكاملة في الحوض الغربي للمتوسط .

    تساءل الكثير من الباحثين عن الاسباب التي دفعت روما الى اللجوء الى التفاوض مع هاصدربعل عوضا من الحكومة البونيقية في قرطاجة ، ان لم تكن لروما نوايا الاخلال بالمعاهدة عندما تسمح بذلك الظروف (31) ،وهو الامر الذي وقع القرطاجيون الى الطعن في شرعية هذه المعاهدة بناء على ما يفهم من بوليبيوس (32) ،الذي حاول ان يدافع عن الموقف الروماني باعتبار هاصدربعل يتمتع بكل السلطات ،التي تؤهله لعقد هذه المعاهدة، التي بموجبها ” يكف القرطاجيون عن اي عمل عسكري الى الشمال من نهر الايبروا(33) . يضع بوليبيوس روما في موضع ” الطالب ” للمعاهدة ـ ربما ـ اعتقادا منه ،مثلما يعتقد الكثير من الباحثين ان قرطاجة هي المستفيدة من المعاهدة ، بدعوى ان المعاهدة سجلت انتصارا معنويا لقرطاجة بالاعتراف بوجودها في اسبانيا (34) ، والواقع أن هاصدربعل هو المتنازل ،مما يجعلنا نفترض أن بوليبيوس تم تغليطه ، لتحميل حنبعل كل تبعات الحرب البونيقية الثانية ، ودفعه الى الاعتقاد ان الاتفاق تم بين الطرفين متساويين ، وأن “روما ” التي تعترف بامبراطورية آل برقة في اسبانيا ، كان هدفها هو ضمان ” أمن ” روما فقط ، في الوقت الذي يمكننا ان نرى في المعاهدة ” املاء ” حقيقي بهدف وضع حد في الحال للتوسع البونيقي في اسبانيا . ينقل لنا بوليبيوس نقاشا في مجلس الشيوخ في قرطاجة مع الوفد الروماني ، ويقول ان الوفد الروماني بعد الاستماع الى القرطاجيين ، امتنع عن الرد ، وأكتفى عميد الوفد بالتصريح امام هذا المجلس بعد أن كشف عن صدره قائلا :” إني أحمل هنا في نفس الوقت ” السلم والحرب ” وأنه بناء على الرغبة التي يظهرونها ، يترك لهم هذه أو تلك ، رد كبير القرطاجيين ، أنه على الرومان الاختيار ، وأعلن حينذاك الوفد الروماني أنها ” الحرب ” ، فكانت صرخة الجميع بالقبول (35) .

     وهكذا كانت الحرب البونيقية الثانية ،التي عرفت ويلات كثيرة ،وانتهت بعقد معاهدة زاما 201 ق.م ، التي كانت تحمل في ثناياها بوادر حرب أخرى ، مادامت قد نصت على حق مسينيسا في استرجاع ممتلكاته وممتلكات أسلافه في اطار حدود لم تحدد في المعاهدة (36) ،وهو البند الذي استغله العاهل مسينيسا في التوسيع على حساب قرطاجة ، التي لم تجرؤ على الرد ، وعندما ردت سنة 150 ق. م ، كان ذلك ذريعة لتدخل روما في الأحداث الجارية في منطقة شمال افريقيا بدعوى خرق قرطاجة لمعاهدة زاما (37) . تتحدث مصادرنا عن نقاش طويل وحاد في مجلس شيوخ روما ، بين موقفين أحدهما يمثله ” كاتو ” الداعي الى تدمير قرطاجة ، بدعوى خرق قرطاجة للمعاهدة السابقة ، لكن في نفس الوقت يشير هؤلاء الى النهضة الاقتصادية والحيوية الديموغرافية التي وجد عليها المدينة أثناء سفارة تحكيم التي قادها ” كاتو ” سنة 153 ق.م ، مما يعني أن هذه النهضة هي السبب وراء التدخل . أما الموقف الثاني ، فكان يمثله سكيبيو نازيكا (Nasica) الذي كان يؤكد على الوقائع الايجابية لمبعث الخوف ، الذي تلهمه هذه المدينة ، وبذلك نلاحظ أن وجهة نظر تعتمد على ” التوازن ” في مجال البحر المتوسط ، والأخرى على السيطرة ” المطلقة ” ، لكن قرار تدمير قرطاجة حتى قبل اعلان الحرب من طرف مجلس الشيوخ ، يترجم دون أدنى شك منعطفا في تاريخ الامبريالية ( النزعة التوسعية ) الرومانية . كان هذا الصدام بين قرطاجة ومسينيسا وراء تدخل روما في الأحداث الجارية في المنطقة ، بحجة خرق قرطاجة لبند من بنود معاهدة زاما 201 ق.م التي تحظر عليها اعلان الحرب في افريقيا أو خارجها الا بإذن من الشعب الروماني ( 38) ، لكن الثابت أن الحرب البونيقية ، قد شنتها روما ، لا خوفا من قرطاجة كما تدعيه تلك المصادر ، بل كانت حربا تستهدف وضع حد لنفوذ

    مسينيسا الذي خرج قويا من الحرب البونيقية الثانية بالقضاء على غريمه سيفاكس وتكبيل قرطاجة ، فتزايد نفوذه ، وقد شعرت روما الآن بخطر سياسته الافريقية التي تعرقل مساعي روما التوسعية (39). تغاضت ” روما ” عن الصراع بين مسينيسا وقرطاجة طيلة الفترة الممتدة من 193 ـ 150 ق . م لأن الصراع كان يخدم المصالح الرومانية وبالتالي يجب أن يستمر بين الطرفين ، أما أن يحسم لصالح طرف من الأطراف ، فهذا ما تخشاه روما ولا ترضاه ويجب الوقوف في وجهه ، فيكون بذلك تدخل روما بهدف وضع حد لطموح مسينيسا خاصة أنها كانت تدرك أن قرطاجة ستقع لامحالة بين يدى الملك ، ان لم تتدخل ، فكان التدخل للوقوف في وجه هذه القوة الجديدة المتنامية ، وليس في وجه قرطاجة المنهارة (40). يتجلى مما سبق أن حوادث 150 ق.م ، بين مسينسا وقرطاجة ، كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس ـ كما يقال ـ ، فروما أدركت أن الصراع الذي دام حوالي نصف قرن سيحسم بسيطرة ” الملك ” على الوضع وذلك كما قلنا ـ معناه ظهور قوة جديدة في الحوض الغربي للمتوسط ، وقد تعرقل السياسة الرومانية الرامية الى بسط نفوذها في المنطقة ، خاصة ان روما كانت تعرف الخصال العسكرية لمسينيسا ، كما كانت على دراية بسياسته الافريقية الطموحة ، كيف لا وهو صاحب شعار ” افريقيا للافارقة ” ،فكانت روما اذن تخشى من تنامي قوة مسينيسا وليس من قوة قرطاجة ، فكانت الوسيلة الوحيدة لابعادها عنه ، هي ازالتها من الوجود ، فقررت ذلك ، واختلقت ذريعة التدخل ، فكانت الحرب البونيقية الثالثة 149 ـ 146 ق . م ، التي انتقل خلالها مسينيسا الى عالم الأموات بداية يناير 148 ق . م . يشير أبيانوس صراحة الى غضب مسينيسا من تصر ف روما ، وقد حز في نفسه بناء على نفس المؤرخ أن يركع ” قرطاجة و” تهرع ” روما لتجني الثمار (41 ) ، وهو ما يعني أن مسينيسا

   أدرك نوايا روما التي كان من عادتها أن تخبره قبل القيام بأي حرب ( 42) . مهما كان الامر ، فإننا مثلما وجدنا شبه اجماع عند المؤرخين الاغريق واللاتين على أن النتائج الباهرة التي حققها آل برقة في اسبانيا من ناحية ، والحقد الدفين لدى الاخيرين والرغبة في الانتقام من ” روما “هي اسباب الحرب البونيقية الثانية ، فإن الحرب الثالثة أيضا يشير هؤلاء الى أن النهضة الاقتصادية والحيوية الديموغرافية في قرطاجة ، كانت وراء طلب ” كاتو” تدمير المدينة . سواء كانت هذه الحرب بسبب النهضة الاقتصادية في قرطاجة أو بسبب تنامي قوة مسينيسا ورغبة روما بالتالي من استباق وقوعها في يد “الملك” ، فإن الحرب كانت وسيلة من وسائل حفظ ” أمن روما ” وبالتالي حتى لو كانت حربا توسعية ( امبريالية ) ، فهي لا تتعارض مع ” الحرب العادلة ( Iustum Bellum ) في نظر الرومان ، فالحرب وفق المفهوم الروماني لا يعني اعطائها تبريرا أخلاقيا ، وإنما يعني فقط أن الحرب كانت موجهة لحماية ” الوطن ” ووطن الحلفاء من تهديد الأعداء . حتى لوكان هذا التهديد وهمي والهدف هو التوسع والهيمنة ، مما جعل الاغريق يرون في هذه الرؤية التوسعية نموذجا يبين بشكل واضح ” التوازن ” الصعب بين السلطة والعدالة .

 

المراجع والهوامش :

*محاضرة القيت في الملتقى الدولى , النظم العسكرية في بلاد المغرب القديم منذ القديم الى نهاية العصر العثماني , المنظم من طرف مخبر البناء الحضاري للمغرب الاوسط – الجزائر- يومى :26-27 نوفمبر 2014 , نشرت ضمن اعمال الملتقى في مجلة “دراسات تراثية ” , العدد .5,2014.
1) حارش ( محمد الهادي ) ، التاريخ المغاربي القديم السياسي والحضاري منذ فجر التاريخ الى الفتح الاسلامي ، دارهومة للنشر والنوزيع ( الجزائر 1996 ) ، ص .55.

2) نفسه، ص .56.
Gsell (s) ,H.A.A.N ,T.3 , P65 (3
Heurgon (J.) , « Les inscriptions de Pyrgi et l’ alliance Etrusco – Punique autour ( 4
de 500AV. Jc » C .R .A. (Janv .Juin 1965) , P.98- 104 ; Pollotino ( Massimo ) , « Les relations entre les Etrusque et Carthage du VII au IIIe siecle AV .JC .donnes nouvelles et essai de periodisation » ,C.T . ,t .2 (1963 ) PP .23-29. ; Aymord ( A .) , « Les premiers traites eutre Rome et Carthage » , R.E . A , T.59, p 277 -293 . )

5) تيتيوس ليفيوس ، ملخص ، الكتاب ، XIII ؛ XIV.
Polybe, III ,26 , 28 ( 6
7) تيتيوس ليفيوس ، ملخص ، الكتاب ، XIII ؛ XIV.
Polybe, III ,1,26 , ( 8

Polybe, III ,1,8 ( 9
Polybe, III ,1,8 ;10-13 ( 10
Polybe, III ,1,8 ;29-30 ( 11
12) أبيانوس ، حنبعل 2ـ 4 .
13 ) نفسه.
Polybe,III , 1,10 (14

Polybe,III , 9 -10 ; Tite Live , XXI , 1,1 ;2,1 ( 15
(16 بوليبيوس ، III ،1 11.،كورنيليوس نيبوس ، حنبعل ، II، 3-6 ، تيتيوس ليفيوس ، XXI، 1،4، فاليريوس مكسيميوس ، IX، 3 ، زوناراس ، VIII، 21 .
(17 أبيانوس ، حنبعل ،2ـ 3.
(Cornelius ) , Nepos ,Vie d’hannibal , 4 (18
Florus , Histoire romaine ,II , 6 (19
Appien,Hannibal,2-3(20

Polybe,III , 1,9, (21
ID.III ,1,10 ,et 13(22
ID.III ,1,28 (23
ID.III ,1,10 ; Tite Live , XXV , 1,2; Nepos ,Amilcar ,III,1 ; orose ,IV ,13,1 (24
Polybe,III,1,27; Astin (A. c) , « Saguuntum and the origins of the secnd punic wor » (25
,Latomus ,T.26 ,(1967 ), pp.577-596; ,Erington (R.M) ,” Rome and spin bifor the Secend punic war “,Latomus,T . 29 ,(1970 ) , pp . 25 -75
Carcopino (J) « La traité d’Hasdrubal et les responsabilités de la deuxieme guerre punic»,( 26 R.E.A , T .53,(1953), pp.258 -293 .

Charles –picard (G) , « le traité romano – barcid de 226 AV .JC», dane Melanges Jerom(27 Carcopino , p.747 -762 .
28) ابيانوس ، حياة حنبعل ،2-3 ،كورنيليوس نييوس ، حياة حنبعل ،II ،3-6.
29) ابيانوس ، حياة حنبعل ،2-3 .
Gsell (s) ,H.A.A.N ,T.3 , P137 (30

31) مصروعة ( جورج ) ، حنبعل ، جزءان ، مطابع مينا ، ( بيروت 1959 – 1960 )، ، ج1 ، ص231 – 233.
32) بوليبيوس ، III، 1، 29.
33) نفسه .
34) مصروعه ( جورج ) ، المرجع السابق ، ص 231 ـ 233.
35) بوليبيوس ، III ، 1، 33 .

36) بوليبيوس ، III ، 1، 33 .
Saumagne (ch.) , « Pretextes Juriduques de la 3eme guerre Punique » Revue Historique,(37
T .167 ,(1931), pp.225 -253.
38) بوليبيوس ، XV، 18 .

39) نصحي ( ابراهيم )، تاريخ الروم ،ج1 ، منذ أقدم العصور حتى سنة 133ق . م ، منشورات الجامعة الليبية ( 1973 ) ، ص 377.
40) حارش ( محمد الهادي ) ، التطور السياسي والاقتصادي في نوميديا منذ اعتلاء مسينسا العرش الى وفاة يوبا الاول ( 203 – 46ق .م ) ، دارهومة للنشر والنوزيع ( الجزائر 1996 ) ، ص 30.
41)ابيانوس ، Vlll، 94، 444.

42) نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!