خرافة أرض الميعاد والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني

أصل العبرانيين اليهود والفلسطينيين .

أثار النزاع الجاري حاليا في فلسطين بين الإسرائيليين والفلسطينيين الكثير من التساؤلات عن أصل الشعبيين وأيّهما أحق بالأرض، وعن جذور هذا الصراع الطويل وأسبابه، وهل للإنجليز فيه ضلع (وعد بلفور 2 نوفمبر 1917) والفرنسيين، الذين اقتسموا معهم بلاد الشام بموجب اتفاقية سايكس-بيكو (1916)، أم أنّ ذلك كلّه لم يكن إلّا نتيجة لمساعي قديمة، لبني إسرائيل الذين عرضت عليهم أراضي في مناطق شتى من العالم في إفريقيا( أوغندا، مدغشقر) أمريكا (الأرجنتين، البرازيل) وحتى الحديث عن (تكساس وأراراط) وغرب آسيا (البحرين والأحساء)، لكنهم تشبثوا بأرض “كنعان”وهم يعرفون أنها “أرض كنعان ” وليست “أرض عابر”.


لماذا هذا “التشبث” وما علاقة الإسرائيليين بأرض فلسطين، ومن هم الفلسطينيون، وهل نتحدث عن الفلسطينيين أم عن الكنعانيين، وغيرها من التساؤلات التي طفت على السطح، وطُرحت للبحث، وعن علاقة هؤلاء وأولئك بأرض كنعان، ومن هو كنعان؟
لا أخفي صعوبة أو ربما حتى عجزي عن الإجابة على الكثير عن هذه التساؤلات المطروحة، نظرا لنقص المادة الخبرية التي تعتمد بالأساس على ما ورد في الكتاب المقدّس “التوراة”، الموحى به ل”موسى” في السنة الثامنة والثلاثين (38) من التيه في البرية (صحراء سيناء).


هذا الكتاب، الذي اعتمده الكثير من الباحثين كمصدر، وإن كان يحتوي العديد من النصوص، التي تفيد هذا الموضوع، خاصة سفر التكوين، لكن لا يخلو من مواطن ضعف كثيرة، ويشكو الكثير من المآخذ والمغالطات، إذ أظهر أحبار اليهود عندما دوّنوا نصوص هذا الكتاب من الذاكرة أثناء السبي البابلي (586-516ق.م.) وحتى بعده، لا أقول، أنّهم أظهروا تحيزا لبني إسرائيل فحسب، وإنّما صاغوا نصوص هذا الكتاب وفق ما يخدم بني يعقوب في أرض كنعان “أرض الميعاد”.
فقد وضعوا ما وضعوا من تنبّؤات وافتراءات ضد “كنعان”بالذات و”بلاد كنعان”، لذلك يصعب الاعتماد عليه كمصدر في هذا الموضوع بالذات، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنّ علماء اللّاهوت الغربيين، قد أساؤوا استعمال.


هذا “الكتاب المقدّس”، كمصدر تاريخي، فبدلا من السعي وراء الكشف عن الحقائق التاريخية بالاستعانة بنصوص هذا الكتاب، أصبحوا يبحثون عمّا يؤكّد الروايات، التي جاء بها الكتاب المقدّس، ما يعني أنّ دراساتهم، اتّجهت اتجاهات دينية أكثر منها تاريخية.
أمام هذا الوضع العام للمصادر، لا يسعنا إلّا الاعتماد على نصوص هذا الكتاب مع توخي الحيطة والحذر مع مقارنة محتواه بما توفر من أثار ونصوص دول غرب آسيا الثرية بموروثها الحضاري.
من ذلك مثلا “قصة الطوفان” في الكتاب المقدس، والتي أريد بها أن تكون كذلك، لكي يبدو نوح وأولاده، وكأنهم أصل الأجناس مما يلي”الطوفان” دون ما تقدم عنهم من نسل آدم، إذ يوصف الطوفان في التوراة، أنّه قضى على كل شيء حي في الأرض، إذ نجد القول في “التوراة”: “وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فأرتفع عن الأرض، وتعاظمت المياه، وتكاثرت جدا على الأرض، فكان الفلك يسير على وجه المياه، وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء، خمس عشرة ذراعا في الارتفاع، تعاظمت المياه فتغطت الجبال، فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض…ومحا الله كلّ قائم على وجه الأرض…وتبقّى نوح والذين معه في الفلك…” (سفر التكوين، الإصحاح21-17 :7).


قصة الطوفان العبرية هذه، تكاد تكون صورة طبق الأصل لملحمة جلجاميش الكلدانية، ولا تختلف عنها في شيء باستثناء انفراد كتابها بتدوين”سفر التكوين”(la Genèse) في قصة طوفانهم “شجرة أصل ونسب بني إسرائيل” من آدم ومرورا بنوح وسام، انتهاء بأسباطهم الأثنى عشر، ما يدعو إلى الاعتقاد بأن كتّاب التوراة، قد اقتبسوا من ملحمة جلجاميش، التي سبقت تدوين”قصة الطوفان التوراتية” بقرون من الزمن، بل وانتشارها في العالم القديم، حتى قبل ظهور العبرانيين على مسرح أحداث الشرق الأدنى القديم، إذ من الشائع أنّ ملحمة جلجاميش، تعود إلى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وتعود معظم نصوص الرقم الطينية، التي وصلتنا من هذه الملحمة وهي عبارة عن نسخ لأصول يعود تاريخها إلى العصر السومري الحديث (2050-1950ق.م.)، وقد ترجمت هذه الملحمة المدونة أصلا باللغتين السومرية والأكادية إلى اللغة الحيثية، التي كشفت بعض قطع منها، يعود تاريخها أيضا إلى (1412-1352ق.م.)، ويكون منشأ القصة في بلاد ما بين النهرين، لا في فلسطين، لأنّ بلاد ما بين النهرين معرّضة دوما للفيضانات الدائمة والمدمرة.
يكون العبرانيون، قد دوّنوا مضمون هذه القصة، وتثبيتهم أصل شجرة النسب السامية، بعد اختلاطهم بالكنعانيين، واقتباسهم عنهم أصول الكتابة، أي بعد عصر القضاة، الذي انتهى سنة 1030ق.م. الأمر الذي يدعو.

للتساؤل إن كان الطوفان قد عمّ كامل المعمورة، وأهلك كل حي يدبّ على الأرض كما في التوراة، أم أنّه لم يغرق فيه إلّا أمم قليلة، ولم يبلغ ممالك الشرق كلّه وممالك الغرب كله؟
يشير البعض إلى أنّ الفرس وعامة المجوس، قد أنكروا الطوفان، وقد وافقهم في ذلك أمم الصين والهند وقالوا أنّ ذلك لم يعم العمران كله، ما يجعلنا نتساءل بدورنا عما ورد في التوراة، وهل يمكن فعلا لخمس عشرة ذراعا من ارتفاع المياه، أن تغطي كل الجبال الشامخة (سفر التكوين، الإصحاح20-17 :7)، وكيف لفلك نوح أن يحمل من جميع البهائم الطاهرة وغير الطاهرة ومن الطيور والزواحف أعدادا معينة، إذ يذكر في التوراة: “من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة: ذكرا وأنثى ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى، ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى، لاستبقاء نسْلٍ على وجه كل الأرض…” (سفر التكوين، الإصحاح3-2 :7)، ما يعني أنّ عدد تلك الحيوانات المستأنسة منها والبرية والطيور والزواحف كان كبيرا، وكذا الأطعمة والأعلاف لكل من معه لمدة مائة وخمسين يوما (سفر التكوين، الإصحاح،3 :8)، مما يدعونا للتساؤل، كم كانت سعة هذا الفلك الذي كان طوله ثلاثمائة (300) ذراع وعرضه خمسين (50) ذراعا وثلاثين (30) ذراعا ارتفاعه، وبه مساكن سفلية ومتوسط وعلوية (سفر التكوين، الإصحاح،15 :6)، وهل كان بالإمكان في أواخر الألف الرابعة أو منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، صنع “فلك”يقترب طوله من مائة وخمسين (150) مترا، يصمد أمام أمواج، يصل علوها سبعة أمتار، بكل ما تحمل من حيوانات وأعلاف وأطعمة تلبى حاجة كل من في الفلك لمدة مائة وخمسين (150) يوما؟


علما أيضا أننا لم نجد أي أثر مادي لهذا الطوفان خارج منطقة الرافدين، إذ لا نجد في تاريخ الفراعنة ولا متون الآثار ما يشير إلى حدوث طوفان أهلك الحرث والنسل، ولم يبق على شيء في الأرض أوانه، ونجد في القرآن الكريم ما يدعم فرضية أن الطوفان سُلّط على قوم “نوح” الذين طغوا وتجبّروا، إذ نجد في محكم تنزيله: ﴿إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذِر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا رب قومِ أني نذير مبين أن أعبدوا الله واتّقوه وأطيعوني﴾ (سورة نوح: الآيات 1-3)، ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فلبث فيهم ستّة آلاف وخمسين عاما، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون﴾ (العنكبوت: الآية 14)، ﴿وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون﴾ (سورة هود الآية 36)، ﴿ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملْأٌ من قومه سخروا منه، قال أنّا تسخروا منا، فإنّا نسخر منكم كما تسخرون﴾ (هود الآية 38).
هكذا نلاحظ في الآيات السابقة أنّ الكلام موجه لنوح وقومه، وأنّ الطوفان، كان موجه لإغراق قوم نوح الذين ظلموا.

وقد أرسى الفلك بناء على ما ورد في القرآن الكريم على جبل الجودي: ﴿وقضي الأمر واستوت على الجودي﴾ (هود الآية: 44)، بينما تشير قصة الطوفان العبرية إلى توقف فلك نوح عن الإبحار على سفوح جبال أراراط (سفر التكوين،4 :8) في منطقة أرمينيا التركية.
وإذا كان كتّاب التوراة يعيدون أصول نسل إسحاق إلى آدم، الذي قطن جنّة عدن في آسيا الصغرى، فإنّه يحق لنا أن نتساءل إن لم يكن لتوقف نوح عن الإبحار على سفوح جبال أراراط في منطقة أرمينيا التركية، علاقة بالموطن الأصلي للعبرانيين، هذا الفلك، الذي كان “سام” بداخله.
ويعتبر العبرانيون واليهود من بعدهم “سام” بن نوح أبا لكل بني عابر، وعابر هذا، هو الجد الخامس لإبراهيم الخليل، وفق شجرة النسب التوراتية، وكان “سام” أساس شجرة الأصل هذه ومن هنا تستمد “النظرية السامية” وجودها، وتثير هي الأخرى أكثر من تساؤل، فإذا كان “سام” قد عاش في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد (2376ق.م.)، كما هو مفترض، كيف يكون هو الجد الأول للساميين ويكون هو من تنسب إليه “اللغة السامية الأم”، واللغات السامية، كانت قد قطعت أشواطا في تطورها قبل ولادة “سام” هذا؟، إذ كانت الأكادية والكلدانية وحتى البابلية موجودة حتى قبل الولادة المفترضة لسام 2376ق.م.


هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى واستنادا إلى التوراة، تكون “اللغة العبرية” هي “اللغة السامية الأم”، وهي النتيجة، التي ذهب إليها علماء التوراة وعلماء اللاهوت في أوروبا، في هذه الحالة، لماذا تنسب لغة عابر بن شالح (2186 ق.م.) إلى سام بن نوح (2376 ق.م.) والمفروض أنّ الأبناء والأحفاد من يرثون لغة الأسلاف، وليس العكس مثلما هي حالة “سام” الذي أسندت له لغة حفيده من الجيل الرابع، ما يجعلنا نتساءل عن اللغة التي كان يتكلّمها “سام” قبل ولادة “عابر”؟


تساؤلات كثيرة تفرض نفسها نتيجة الكثير من التناقضات التي نجدها في أسفار التوراة، التي يرى البعض أنّ أغلب أسفارها قد نزلت ودوّنت خلال وجود بني إسرائيل في “أرض كنعان”بداية من عصر القضاة (1200-1030ق.م.) ويستمر حتى تدمير نبوخذ نصر مدينة القدس عام 586ق.م.، ما يعنى أنّ النزول والتدوين انتهيا بهذا التاريخ الأخير، وهو الأمر الذي لم نجد له دليلا، والمعروف أنّ تدوين التوراة جاء في فترة متأخرة، ولم يتم ذلك قبل فترة السبي البابلي، لذلك يجب أن نفرّق بين تدوين هذه النصوص في عصر لاحق للقرن السادس قبل الميلاد، وبين تناقل الرواة الشفوي لمضمونها خلال فترات زمنية سابقة، وما قد ينتاب ذلك من سهو ونسيان وربما حتى تعديل في نصوصها بالإضافة أو النقصان، مثلما أقرّته الجمعية العبرية التوراتية في الثالث عشر فبراير 1905م، كما أقرّ مجمّع

الحاخاميين صياغة النص النهائي للتوراة العبرية في سنة 100م، ما يعني أنّها لم تدوّن من طرف موسى في وادي زارد كما يشاع.
يذكر الكثير من الباحثين المهتمين بتاريخ الشرق الأدنى القديم، أنّ العبرانيين دوّنوا التوراة بعد أن اختلطوا بالكنعانيين والآراميين، وأخذوا عنهم أصول الكتابة والكثير من مفردات اللغة، بينما يرى آخرون أنّ حروف الهجاء الكنعانية، انتقلت شرقا إلى الشعب الآرامي، الذي نقلها عنه العبرانيون الذين كتبوا بها أسفار التوراة، حتى أنّ لغة الجيميريين (الجيمارا الأورشليمي والبابلي)، كانت تغلب عليهما اللغة الآرامية، يعود الأول للقرن الرابع الميلادي والثاني لمنتصف القرن السادس ميلادي، ومعروف أنّ العبرانيين لم يشرعوا في وضع قواعد لغتهم إلّا مع بداية القرن العاشر الميلادي وسبق ذلك تشكيل نصوص التوراة وتنقيطها ما بين منتصف القرن السادس الميلادي إلى بداية القرن العاشر للميلاد.


أمّا عن أصل العبرانيين، فإنّ التوراة تشير لأول مرة إلى خروج العبرانيين من “أور” الكلدانيين، ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا “حاران” وأقاموا هناك، إذ تذكر التوراة: “…وأخذ تَارَح أبْراَمَ ابْنَهُ، ولُوطاً بْنَ هَارَانَ، ابن ابنه وسَارَايَ كنْته امرأة اَبْرَامَ ابنِهِ، فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك” (سفر التكوين، الإصحاح،31 :11).
تكون أحداث إشارة التوراة هذه، تعود إلى العصر الذي أشارت فيه نصوص “ماري” إلى الخابيرو، مما يستحيل إقامة علاقة تربط، “أور الكلدانيين” الذين أسّسوا آخر دولة لهم سنة 605ق.م. في عصر نبوخذ نصر، الذي وقع الاصطدام بينه وبين اليهود وانتهى بالاستيلاء على القدس وتحطيم الملكية اليهودية بشكل نهائي، فلا يمكن إقامة جسر يربط “أور الكلدانيين” أواخر القرن السابع قبل الميلاد بأحداث يفترض أنّها وقعت قبل ذلك بأثني عشر قرنا من الزمن.


لكن مع ذلك نجد إشارة التوراة هذه تتفق مع ما جاء في نصوص “ماري” من أنّ العبرانيين كانوا في منطقة حاران “الحورية” وما يدعم ذلك أنّ اسم “أور” لم يرد ذكرها في “التوراة السبعينية”، التي تعود لعهد بطليموس فيلاديلفيوس (282-246ق.م.)، ما يدعونا للاعتقاد أنّ اسم “أور” قد أضيف إلى نص “التوراة العبرية” في وقت لاحق لعصر النص اليوناني.
يبدو من بعض القرائن أنّ علاقات ما كانت تربط العبرانيين بالحوريين، الذين كان موطنهم الأصلي هي جبال أراراط في آسيا الصغرى، والتوراة تذكر أنّ فلك نوح، استقر على جبال أراراط، ما يعني أنّ أصلهم الأول فيما يرون في منطقة أراراط، كما يرى البعض أيضا أنّ أصولا ما كانت تجمع بين العبرانيين والحوريين وهي التشابه في العادات والتقاليد قبل أن يغزو العبرانيون أرض كنعان، وهو ما تؤكده أسماء أسباطهم وإلههم “يهوه”، التي يصعب ربطها بإحدى اللغات الأصلية في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن كتّاب التوراة، يعيدون أصول نسل إسحاق إلى آدم ، الذي قطن جنة عدن (آسيا الصغرى).


ونجد ما يدعم هذا عند المستشرق الإيطالي ساباتينو موسكاتي، الذي يقسم الساميين إلى نمطين: النمط الشرقي أو ما أسماه بالنمط الإيراني، وهو يسود في رأيه شبه الجزيرة العربية وبعض مناطق فلسطين وسوريا وأرض الرافدين مع وجود في فلسطين وسوريا وأرض الرافدين، نمطا آخر، أصله من الشمال ويسمى بالشبيه بالأرميني، وبعض ملامح هذا “النمط”صارت من الملامح المميزة لليهود، ليعود ويؤكد أن النمط الأول، هو الذي ساد المنطقة السامية كلها، بينما لم ينفذ النمط الشبيه بالأرميني إلى المنطقة إلّا خلال الألف الثانية قبل الميلاد ما يعني أنّ العبرانيين (اليهود لاحقا) لم ينفذوا إلى مناطق سوريا وفلسطين وبلاد الرافدين إلّا خلال الألف الثانية قبل الميلاد.

هذا حول العبرانيين واليهود لاحقا، أمّا بخصوص الفلسطينيين، فقد ذكرتهم التوراة لأوّل مرة قبل دخول بني إسرائيل إلى بلاد كنعان بما يزيد عن خمسمائة (500) سنة، وذلك في زمن إبراهيم الخليل (1968-1793ق.م.)، إذ ذكرت أنّ “فِلِشتيم” هو الاسم العبري، الذي اشتق منه لفظ “فلسطين”، إذ جاء في سفر التكوين (الإصحاح،34,32 :21): “…ثم قام أَبِيمَالِك وفِيكُول رئيس جيشه ورجعا إلى أرض فلسطين…وتغرّب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة”.
وذكروا أيضا أيام إسحاق (1868-1688ق.م.) في مواقع كثيرة- نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “فذهب إسحاق إلى أبيمالك، ملك الفلسطينيين إلى جرار وظهر له الرب وقال: “لا تنزل إلى مصر، أسكن في الأرض التي أقول لك تغرب في هذه الأرض فأكون معك ، وأباركك لأنّي لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد، وآفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك” (سفر التكوين، الإصحاح3-1 :10)، وفي مواضع أخرى من هذا الإصحاح وكذا الإصحاح العاشر (13 :10)، يكون فلشتيم هو أبو الفلسطينيين من نسل أبناء مصرايم، الذين أقاموا في أرض ساحل فلسطين عند غزة قبل زمن إبراهيم الخليل: ” ومَصرَايم ولد لُودَيمَ وغنَامِيم ولهَابِيمَ ونَفْتُوحيمَ وفتروسيم وكسلوحيم، الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم (سفر التكوين، الإصحاح،14-13 :10).
يكون بناء على ذلك أنّ “فلشتيم” هو أبو الفلسطينيين الذين استوطنوا ساحل البحر الأبيض المتوسط فيما بين يافا- وغزة جنوبا وما ولاهما شرقا إلى جبل الخليل، وبهم سميت أرض كنعان، وهذا بناء على التوراة، التي دوّنها حاخامات بني إسرائيل، وهذا أيضا يعني أنّ إسحاق قد عاش بعد أن استوطنت أكبر قبائل شعوب البحر هذه المعروفة بقبيلة الفلسطو (philistae) الجزء الجنوبي من ساحل بلاد كنعان.


لكن هذا يخالف الحقيقة، إذ من المعروف تاريخيا وتؤكّده الوثائق الأثرية أنّ استيطان هذا الفرع من “شعوب البحر” لهذا الجزء من أرض كنعان، كان قد تمّ بعد أن هزمهم رمسيس الثالث (1198-1166 ق.م.) في معركة فاصلة سنة ( 1195ق.م.)، عندما حاولوا الدخول إلى مصر، فحال ذلك دون مرادهم، فعادوا على أعقابهم، وحطّوا رحالهم في السهول الساحلية للجزء الجنوبي الشرقي من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فاستوطنوها وأعطوها منذ ذاك اسم “فلسطين” ما يعني أنّ كل ما ورد في التوراة بخصوص الفلسطينيين، قد أضيف في وقت لاحق.
إذا كان إسحاق قد عاش كما رأينا في القرن التاسع عشر- السابع عشر (1868-1696 ق.م.)، الفترة التي عاش فيها والده إبراهيم كما هو مفترض (1968-1793 ق.م.) وهي فترة سابقة لعصر موسى (1548-1428 ق.م.)، فلا يمكن أن يكون إسحاق قد عاصر استيطان تلك الشعوب للجزء الساحلي الجنوبي من بلاد كنعان، فيكون مجرد ذكر إسحاق مع ذكر الفلسطينيين يؤكد أنّ نص التوراة قد دُوِّن خلال عصر لاحق

لتاريخ استيطان شعوب البحر تلك لجزء من ساحل أرض كنعان.خاصة إثر اشتداد الصراع بينهم وبين العبرانيين، الذي أدّى إلى نزوح القبائل الكنعانية من المناطق الداخلية نحو المدن الساحلية: صور، صيدا، جبيل، طرابلس… التي لم تتحمل ثقل التزايد الديمغرافي، فظهر في خضم ذلك ما يعرف بالشعب الفينيقي، الذي استغل التطورات المنجزة في مجال التعدين وصناعة السفن للقيام بالرحلات البحرية إلى غرب المتوسط.
إذا كان البعض يرى أن هؤلاء الفلسطو من الأيليريين أو المقدونيين، فإنّ البعض الآخر يجعلهم أقرب إلى الدوريين منهم إلى الأيليريين، وكان إلى جانبهم الليبيين والشارديين (سكان سردينيا/Shardanes) واللوقيين (سكان ليقيا/ Loukou) والتورشيين (الأتروريون/ Toursha) وشعوب بحرية أخرى، هاجمت مصر، لكن رمسيس الثالث، ردّهم فنزلوا في الشام مثلما ذكرنا آنفا.


لمّا لم يكن تعدادهم كبيرا جدا، ولم يحصلوا على مد شعبي جديد، فلم تتوفر لهم القوة الكافية للتأثير على الكنعانيين سكان البلاد الأصليين، بل بالعكس لم يدم الأمر طويلا حتى انحلوا في هؤلاء.
ولم نعرف شيئا عن لغتهم ولا عن ملامحهم ما عدا ما خلّفه لنا المصريون في فن رسمهم، حيث يظهر محاربوهم، يرتدون خوذة مزينة بريشة، وهي علامة تقرّبهم وفق البعض من كريت، وتجعلهم أقرب إلى الدوريين منها إلى الإيليريين أو المقدونيين، كما يُستمَّد من التقارير المصرية آثار الدمار الذي خلفته هذه الغزوة.
حاز هؤلاء الفلسطينيون على شهرة كبيرة بما ورد عنهم من أحاديث في مختلف أسفار التوراة باعتبارهم شكّلوا القوة الأساسية، التي واجهت الإسرائيليين، الذين نزحوا في الفترة نفسها إلى بلاد كنعان.
بينما سيطرت قبائل الفلسطو على المنطقة الساحلية بين يافا وغزة، التي عرفت منذ ذاك ب”فلسطين”، رسّخ العبرانيون أقدامهم عند مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد في المنطقة الجبلية القليلة السكان من المنطقة الغربية للأردن، وتمكنوا من تأسيس منطقة لاستيطان بعد مدة طويلة من الاستيلاء على بعض المدن والوديان الكنعانية بسبب الدفاع المستميت لأصحابها عنها.


يجعل العبرانيون (نسبة إلى عابر بن شالح بن قينان وُلِد 2186 ق.م.) تاريخهم يبدأ من الخليقة أي من نشأة الإنسان على الأرض، لكن إذا أردنا أن نتتبّع تاريخهم في بلاد كنعان، فنعود إلى زمن إبراهيم الخليل في أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، عندما هرب من أرض الكلدانيين هو وإخوته وأبوه إلى “حاران” بين النهرين شمال العراق، التي ظلّ بها أربع عشرة سنة، ولمّا مات أبوه “تارح بن ناحور”، تراءى له الرب حسب التوراة قائلا: ” إذهب من أرضك، ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمّة عظيمة” (سفر التكوين، الإصحاح،7-5 :12)، ثم نزل منها إلى مصر مغتربا في عهد سنوسرت الثاني (1898-1879 ق.م.)، و لما عاد إلى بلاد

كنعان، لم تحتمله الأرض ولوط ابن أخيه، مثلما تشير إلى ذلك التوراة بسبب كثرة مواشيهم من أبقار وأغنام (سفر التكوين، الإصحاح12-11 :13) فافترقا، فأقام لوط في دائرة الأردن، وسكن إبراهيم في أرض كنعان.
يبدأ تاريخ العبرانيين الحقيقي مع الخروج من مصر حوالي 1468 ق.م.، إذ نزل بنو يعقوب إلى مصر سنة 1678ق.م. مع أبيهم ومقتنياتهم، حيث كان يوسف أمينا لمخازن فرعون مصر”أبوفيس الأول” رابع ملوك الهكسوس، فأسكن يوسف أبوه وإخوته أفضل الأرض، كما أمر الفرعون في أرض رع مسيس (أرض أبناء رع).
كان خروج بني يعقوب من مصر بعد إقامة دامت مائتي وعشر(210) سنين سنة (1468 ق.م.)، بقيادة موسى(1548-1428 ق.م.)، وبعد أربعين سنة من التيه في البرية (صحراء سيناء)، دخلوا إلى أرض كنعان، التي تفيض لبنا وعسلا على حد وصف التوراة (سفر الخروج133 :33 ;5 🙂 عن طريق الفتح العسكري والتسلل، وتمكنوا بعد مدة طويلة من المواجهة مع الأموريين والقبائل النازحة إلى المنطقة مثل الأراميين والفلسطينيين خاصة خلال القرن الثالث عشر- الثاني عشر قبل الميلاد، تمكّنوا من ترسيخ أقدامهم في المنطقة الغربية من الأردن.
تُعرف هذه الفترة من تاريخ العبرانيين، بفترة حكم القضاة (1200-1030 ق.م.)، وكان المجتمع العبري، يتكون من اثني عشرة سبطا، تربط بينهم “عبادة يهوه”، هذا الإله، الذي اختارهم”شعبا”، يكون أداة ليقضي بها ما شاء على الأرض. يتبع

Exit mobile version