تعميم تدريس الأمازيغية بالجزائر: الرهان والتحديات
يرى الفيلسوف الكندي “ويل كيمليكا” أنه من الواضح اليوم أن نموذج الدولة القومية التي تبني وحدتها وتجانسها على ادعاء وجود عرق واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة وتعمل على تحقيق الاندماج القسري لبقية الأعراق واللغات، قد تجاوزه الزمن وحل محله نموذج الدولة الحديثة التي تتسم بالتنوع والتعددية والتي تعترف بكل الثقافات واللغات الموجودة فيها. فالتعدد اللغوي إذن هو القاعدة في حين أن الأحادية اللغوية استثناء تفرضه صراعات قبلية وإثنولسانية أو حصانات دينية أو حتى استعلاءات حضارية.
والأمر الأهم في هذه المسألة هو أن الأحادية الثقافية واللغوية والسياسية لم تعد قادرة اليوم في عصر العولمة على ضمان وحدة الأمم وتماسك بناء الدول، وهنا تكمن أكبر الرهانات والتحديات التي يتعين أخذها في الحسبان. ولكن، كيف يمكن الرهان على التعددية والعدالة اللغوية في مواجهة التحديات المرتبطة بالوحدة الوطنية والأمن القومي في الجزائر وشمال أفريقيا عموما؟
ولعل ما أثار انتباهنا لهكذا تساؤل هو القول المزعوم بأن “تعميم تدريس اللغة الأمازيغية فيه إجبار لبعض الجزائريين” وهو في الحقيقة قول متهافت كتهافت ما كان يردده بعض المتطرفين في الجانب الآخر بادعائهم أن اللغة العربية فرضت عليهم كذلك. فاقتصار تعليم الأمازيغية على بعض المناطق من البلاد دون غيرها لا يخدم الجزائر إطلاقا ولا يحقق المبتغى والغايات التي من أجلها تم التكفل دستوريا بالأمازيغية، بل يتناغم تماما مع المنطق الانعزالي لجماعات “الماك” و “المام” وغيرهما التي ترى أنه لا جدوى من محاولة إقناع الجزائريين المستعربين بضرورة تحقيق العدالة اللغوية في البلاد بينهم وبين الجزائريين المحافظين، أي المتحدثين بالتنوعات اللسانية الأمازيغية، وإنما الحل حسب هذه الجماعات يكمن في تقسيم الجزائريين ليتبنى كل طرف اللغة التي يعتبرها لغته، وهذا بالطبع خيار انتحاري يستند إلى طرح شاذ ينم عن تفكير يشوبه القصور ورؤية سطحية للأمور يغذيها التعصب ممزوجا باليأس وفقدان الأمل، وهو توجه مخالف تماما لأدبيات المطلب الأمازيغي كما صاغها الرعيل الأول من المناضلين في الحركة الوطنية والمتشبعين بالنزعة الوطنية والتي ترى في المواطن الجزائري بعده الشمال-افريقي بكل تنوعاته الاثنية واللغوية والثقافية، والذي يميزه نزوع قوي نحو التحرر والانعتاق، منذ فجر التاريخ وكل المقاومات ضد الغزاة إلى أيام الحركة الوطنية وثورة التحرير، ونحو الحداثة والانفتاح على اللغات والثقافات والحضارات، في مقابل النماذج الانغلاقية والإقصائية التي تكتسي طابع قوميا أو دينيا مؤدلجا.
فالأمازيغية لا تعني فقط المتحدثين بها في مناطق معينة من البلاد كجرجرة والبيبان والصومام والبابور والأوراس وشنوة وبني حوى والأطلس البليدي وميزاب وورجلان والهقار والطاسيلي وتوات والقصور وغيرها، فضلا عن المدن الكبرى كالعاصمة، كما يروج له في بعض الأوساط، وإنما تعني المواطن الجزائري أينما وجد، بل تعني كذلك جميع شعوب شمال أفريقيا كما جاء في تقرير الجزائر المرفوع أمام الدورة الـ94 للجنة مكافحة التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة حيث ورد فيه أن “الأمازيغية لا تقتصر على عدد محدود من المناطق… بل هي مجال (فضاء) لغوي يغطي كل شمال أفريقيا، بما في ذلك بلدان جنوب الصحراء الكبرى، بأبعادها الإنسانية والثقافية والمتعددة الثقافات الأكثر إثمارا، التي تستمد منها الجزائر فخرها المشروع وتكرس ديمومتها”. وباعتبار الجزائر دولة موحدة وليست فدرالية، فإن الدستور الجزائري أضفى الطابع الوطني والرسمي على اللغتين العربية والأمازيغية، مع اعتبارهما لغتين مشتركتين لجميع الجزائريين، وهي اعتبارات لا يمكن معها بتاتا اعتماد مبدأ الإقليمية اللسانية (Principe de la territorialité linguistique)، فضلا عن كون هذا المبدأ عاجز أيضا عن المساهمة في رفع الحواجز اللغوية والثقافية بين الجزائريين المحافظين والمستعربين كما هو مأمول.
ولهذا، فالعدالة اللغوية المنشودة في الجزائر لا تعني البتة اعتماد سياسة لغوية تعددية تعترف بحق التعاطي اللغوي ضمن نطاقات جغرافية معينة لكل لغة على حدى كما هو معمول به في بعض الدول الفدرالية التي يتواجد بها عدد كبير من اللغات، فالجزائر دولة موحدة وبها مجموعتين لغويتين فقط وهما العربية الفصحى وما يقترن بها من دوارج من جهة، وكذا الأمازيغية ممثلة في جميع تنوعاتها اللسانية من جهة أخرى، والمجالات الجغرافية التي تستعمل فيها اللغتين متداخلة، وبالتالي لا يمكن لكل إقليم أو جهة اعتماد سياسة تربوية خاصة بها وتدريس لغة من دون الأخرى، فهذا التخصص اللغوي حسب النطاقات الجغرافية لا مبرر له لاسيما وأنه قد “بات من المطرد عند علماء اللسانيات الجغرافية أن يتعايش لسانان جنبا إلى جنب في بلد دون أن تفصلهما حدود جغرافية أو يذوب أحدهما في الآخر” على حد تعبير عالم اللسانيات “فرديناند دي سوسير”.
كما أنه لا يمكن التنازل عن منطق المواطنة الذي تكرسه الدولة التعددية الحديثة لمسايرة منطق بعض المتعصبين المتشبثين بالانتماءات التقليدية والمتشبعين بعقلية القبيلة والدوار التي تجعلهم يعتبرون مناطق تواجدهم مجالا حيويا لهم وملكية خاصة بهم من دون باقي الجزائريين، إذ لا تعقل الاستجابة لمثل هذه النزعات الانعزالية والمنغلقة على الذات لإجبار مواطن جزائري ما على البقاء والاستقرار في منطقة معينة حيث يتواجد بكثرة متحدثون بلغة ما، عربية كانت أو أمازيغية، ليتمكن أولاده من تعلمها بمدارسها ويحرم من العمل والاستقرار في مناطق أخرى قد لا يتوفر فيها – حسب هذا المنطق غير السليم – تدريس هذه اللغة، فهذه مقاربة خاطئة بالأساس لأنها لا تستقيم مع تعريف ووصف اللغتين بكونهما مشتركتين بين جميع الجزائريين ومع مفهوم المواطنة الدستورية وحقوق الإنسان الأساسية ومنطق الوطن للجميع بغض النظر عن الأعراق والإثنيات والمذاهب والأديان والتوجهات الفكرية والسياسية. فاقتصار التعليم المدرسي (الرسمي) للغة على جهات معينة واللغة الثانية على جهات أخرى، هو خيار انتحاري لا يحل المشكلة إطلاقا بل يعيدها إلى نقطة الصفر ويعمق الشرخ بين المواطنين الجزائريين المحافظين ونظرائهم المستعربين مما يهدد استقرار ووحدة البلاد.
غير أن تدريس الأمازيغية كما هو منشود سيتم تعميمه حتما بالتدرج ريثما يتوفر منتوج التكوين من الحاملين لشهادات جامعية في التخصص الذي لا يتوفر حاليا إلا على مستوى أربع جامعات فقط (البويرة، باتنة، تيزي وزو وبجاية)، ولن يمس كل الفئات والأعمار، فلن نعود ونحن كبارا مثلا إلى المدرسة لنتعلمها، وإنما سيكون تدريس هذه اللغة موجها للتلاميذ المقبلين على التمدرس حيث سيدرسونها إلى جانب العربية، وذلك ضمن الإطار الاستراتيجي للمدرسة الجزائرية الممتد إلى غاية سنة 2030، مما سيسمح لهم مستقبلا، أي للأجيال القادمة، بالتحكم في اللغتين معا وسيكون باستطاعة الموظفين والعاملين آنذاك على مستوى جميع المرافق والمؤسسات من فهم ومخاطبة جميع الجزائريين والتواصل معهم باللغتين، فلن تبقى هنالك أية حواجز لغوية بين المواطنين، وهو ما سيعزز التلاحم الاجتماعي والشعور بالانتماء الوطني الواحد والمستقبل المشترك.
واعتبارا لكل ما سبق ذكره، فإن تعميم تدريس اللغة الأمازيغية والاهتمام بها ليس شأنا ثانويا أو مجرد ترف ثقافي كما يتصوره البعض، وإنما هو التزام من التزامات الدولة وحقا من حقوق المواطنين، بل هو ضرورة ملحة تمليها جملة من الاعتبارات العلمية والثقافية والسياسية والأمنية أهمها :
أولا: إنقاذ اللغة من الضياع والانقراض اللذان يهددانها بقوة، عن طريق :
1) وضع حد لانحسار (Régression) دائرة استعمالها التي ظلت تضيق باستمرار ولا تزال مما يهددها بالاندثار إن لم تتم العناية بها وحمايتها، إذ يؤكد الأستاذ والباحث في اللسانيات، المغربي “ميلود التوري” أن “معدل الانحسار (Taux de régression) بالنسبة للأمازيغية اليوم يمثل رقما ضخما، لأن عدد الأمازيغيين العازفين عن تكلم لغتهم يزداد في كل وقت وحين”. وكمثال، فإن آخر المناطق التي انقرضت فيها الأمازيغية بالجزائر هي الونشريس (مطماطة وهوارة…) وبطيوة بآرزيو القديمة وعشعاشة بالقرب من مستغانم وبني حليمة بفرندة والقل بسكيكدة، ومرسى بن مهيدي وبني سنوس بتلمسان والمناطق الجبلية بمنطقة القبائل الشرقية (ميلة وجيجل) وجنوب سطيف وشمالها الشرقي وجنوب تبسة وجبال الأطلس البليدي بين المدية والبليدة وغيرها.
ويعود هذا الانحسار إلى أسباب عدة لعل أبرزها عدم استعمال الأمازيغية في الفضاءات العامة مما يدفع الأولياء لعدم تلقين أبنائهم هذه اللغة حتى وإن كانوا يجيدونها، وهو ما يحدث أيضا في المدن كالجزائر العاصمة وباتنة والبويرة وسطيف وخنشلة وبرج بوعريريج وبومرداس وغيرها، حيث نجد في كل حي تقريبا عشرات وربما مئات العائلات التي يجيد فيها الجد والجدة اللسان الأمازيغي في حين أن أولادهم يفهمونه فقط وليس بإمكانهم التعبير به أما الأحفاد فلا يكادون يعرفون منه إلا بعض الكلمات. كما أن بعض الذهنيات التي تأثرت بما أشار إليه أبو يعلى الزواوي من موجة العداء والتسفيه التي كانت تطال ولا تزال كل ما هو بربري من لسان وثقافة، مدعومة ببعض المرويات المكذوبة عن الرسول (ص) في ذم البربر والمغالطات التي تحصر الإسلام فيمن يتكلمون العربية فقط، مع أن أكثر المسلمين اليوم عجما، كلها جعلت أجيالا من الشمال أفريقيين يتنكرون لهويتهم الثقافية ويعزفون عن تلقين أبنائهم اللسان الأمازيغي.
والحقيقة أن موت لغة ما لا يعني فقط اختفاء نسق اتصالي معين وإنما ضياع ثقافة وما يرتبط بها من إرث حضاري وانحدار أمة نحو اللاوجود والخروج من التاريخ.
2) الحيلولة دون استمرار فقدان هذه اللغة لمزيد من رصيدها من المفردات والعبارات وما يرتبط بها من أنواع أدبية، وكذا تثمين الآداب والفنون الشعبية والموروث الثقافي المعبر عنه بهذه اللغة وتدوينه وتشجيع الكتابة والتأليف بها، ولا يمكن هذا بدون مقروئية والمقروئية لا تنشأ وتتوسع دائرتها إلا بتدريس اللغة.
3) التعريف بهذه اللغة وما يرتبط بها من ثقافة وبعد هوياتي تاريخي والتشجيع على اكتشاف مكنوناتها وأسرارها مما يؤدي إلى جعلها مألوفة ومرغوبة، بعيدا عن الصور النمطية المغروسة في أذهان ضحايا الفكر الأحادي المناهض لكل ما يرتبط بالأمازيغية والمعادي للاختلاف والتنوع.
ثانيا: تأسيس وعي معرفي بهذه اللغة واكتشاف مكنوناتها وما هي ناقلة له من نظرة الإنسان في شمال أفريقيا للحياة وفلسفته في الوجود. ولعل هذا ما كان يقصده ابن خلدون بشأن هذا اللسان حين كتب “لو امتدت إليه أعناق الناقلين لملأت الدواوين”.
ثالثا: تجسيد الدولة الحديثة القائمة على التعددية المتضامنة والمتجانسة، وتعزيز الأمن الوطني ووحدة البلاد، من خلال:
1) إبعاد الأمازيغية عن التأثيرات الأيديولوجية المناهضة للجزائر والجزائريين والتكفل وطنيا بالمضامين الأكاديمية المتعلقة بهذه اللغة لتعزيز الأمن اللغوي والثقافي الذي هو جزء من الأمن الوطني ككل.
2) تحييد التوجهات المتطرفة المستغلة لتهميش الأمازيغية في مرحلة ما وكذا التوجهات المناهضة لهذه اللغة وما يرتبط بها من ثقافة وانتماء بفعل الطروحات الأيديولوجية القومية الأحادية المتطرفة، ومن ثم اجتثاث بؤر التوتر المرتبطة بهذه المسألة وشيوع الاستقرار في المجتمع مما يساهم في تحقيق الأمن والتنمية.
3) تحقيق العدالة اللغوية والثقافية في جوهرها لفائدة جميع المواطنين بدون استثناء أو تمييز، وتمكين كل مواطن من حقوقه اللغوية التي تخول له التعامل مع المرفق العام ومؤسسات الدولة (كالتقاضي مثلا) باللغة التي يفهمها ويتكلم بها، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق دون تحكم موظفي المرفق العام (Service public) في اللغتين المستعملتين من طرف المرتفقين (Usagers).
4) كسر الحواجز اللغوية القائمة بين الجزائريين المحافظين والمستعربين وتدعيم التلاحم الاجتماعي والانسجام الوطني ووحدة البلاد، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا باستفادة أبناء كل الجزائريين، من دون استثناء، من القدر الكافي لتعلم هذه اللغة في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية.
5) تحقيق العدالة وتكافئ الفرص في التوظيف مستقبلا، حيث سيؤدي تطبيق الطابع الرسمي للأمازيغية المنصوص عليه في الدستور إلى استعمالها في المرافق والمؤسسات، ولا يعقل حينها أن يستفيد بعض الجزائريين فقط دون غيرهم من فرص التوظيف في المناصب التي تتطلب إجادة هذه اللغة بالذات في التعليم مثلا أو في وظائف المرفق العمومي التي تتطلب ازدواجية لغوية، وهذا يمر حتما عبر تعميم تدريس هذه الأمازيغية للناشئة.
رابعا: المساهمة في تحقيق وحدة شمال أفريقيا، ذلك أن الوعي الصاعد بالهوية التاريخية لمنطقتنا – التي لا تتناقض مع انتمائها الحضاري إلا في أذهان المتطرفين من الفريقين المشار إليهما أعلاه – والذي يزداد مداه انتشارا يوما بعد يوم بين أبناء دول شمال أفريقيا الخمسة ويولد فيهم الاعتزاز بهذه الهوية ويمنحهم الإحساس بالانتماء المشترك، لهو وعي يجب الاستثمار فيه وفق مقاربة تقوم على المواطنة التعددية والمتضامنة (Citoyenneté plurielle et solidaire) التي تشمل كل المكونات التاريخية والاجتماعية بعيدا عن أي اعتبارات عرقية أو طائفية، وذلك لتعزيز الأخوة بين شعوب المنطقة ودفع عجلة التنمية في دولها في إطار مسار اندماجي اقتصادي من شأنه أن يفضي إلى الوحدة المنشودة بين هذه الأقطار. وهنا تبرز أهمية وضرورة تنسيق دول المنطقة لسياساتها اللغوية في هذا المجال.
وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى أن ترقية الأمازيغية وتعميم تدريسها واستعمالها لاحقا يجب أن يخرج نهائيا من دائرة المزايدات والتموقعات الأيديولوجية ويأخذ مجراه العلمي والإجرائي، فالرهان على تحقيق العدالة اللغوية في الجزائر من خلال تجسيد المكانة الدستورية للأمازيغية باعتبارها لغة وطنية ورسمية إلى جانب العربية على أرض الواقع، لاسيما تعميم تدريسها تمهيدا لتعميم استعمالها في الفضاء العام بالموازاة مع دعم ما أنجز من هذه المهمة في بعض القطاعات كالإعلام والعدالة، يرمي أساسا إلى تحقيق المجتمع الديمقراطي التعددي المتضامن وتعزيز الوحدة الوطنية في إطار دولة حديثة قادرة على مواجهة التحديات التي تفرضها العولمة لاسيما تلك المرتبطة منها بالأمن القومي.
بقلم: عبد الله أكـــــير
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مقال منشور بيومية “الخبر” الجزائرية بتاريخ 10 فيفري 2018.
بمجرد أن يقتنع الشعب الجزائري بلغته الثانية ستنتشر بسرعة
أما عن الحكومة فهي السبب الرئيسي التي لا تدعم اللغة و لا تعممها في المدارس الجزائرية