ثقافة

شهادة الوزير السابق عزالدين ميهوبي عن الراحل إيدير “إيدير الإنسان كما عرفته”

إيدير الإنسان.. كما عرفته!

بقلم: عزالدين ميهوبي

بعيدًا عن حديث المعتقد الروحي وانتماء الهويّة وحديث مواقع التواصل التي تنبشُ في سيرة الفنان المرحوم حميد شريط، المشهور بإيدير، سأكلمكم عن جوانب من حياة الإنسان الذي عرفته. في أكتوبر 2015، التقيت إيدير لأول مرة في مطعم البستان، على هامش صالون الإبداع الذي ينظمه ديوان حقوق المؤلف كلّ سنة. أعرفُه ولا يعرفني. كنا ستة مدعوين على الطاولة، وتشعّب الحديث في قضايا السياسة والفن والواقع الاجتماعي، وكنتُ بين الحين والآخر أذكر اسم فنّان أو أغنية أو حدث ثقافي.. بينما كان حديث إيدير لا يخلو من النّكت والتعليقات الذكية العابرة.. وبعد حوالي ساعتين، استأذنتُ في الذهاب لارتباطات مسبقة.

في اليوم الموالي ذكر لي واحدٌ من الحاضرين، أنني بمجرد أن خرجت، سأل إيدير “من يكون هذا السيّد الذي كان معنا؟” فانفجروا ضاحكين “هل أنت جاد يا حميد؟” قال “نعم”، فقالوا له “هذا عزالدين ميهوبي وزير الثقافة”.. فراح يضحك وهو يردد “هذا مستحيل.. ساعتان وهو بجانبي ولم أكلف نفسي التعرّف عليه..”.

وعندما التقيته ثانية، قال لي ضاحكًا “لم أكن أعرف أنني أجلس إلى جانب وزير ثقافة النظام..” وأضاف “أعجبتني بساطتك وتواضعك وثقافتك وتفتحك.. يبدو أنني كسبتُ صديقًا”. وجلسنَا نتحدث في أمور كثيرة.. وأذكر أنه في كلّ مرّة يقول لي “يبدو أن البلد تغيّر وأنا لم أتغيّر.. أن تبتعد قرابة الأربعين عامًا عن أرضك وشعبك، يعني أنّك لن تلمس الشيء الذي يعيش بداخلك. الألوان، وجوه النّاس، النساء، الأرصفة، الأضواء، السيارات، الجدران، المقاهي، لغة الشارع.. نعم تغيّرت أشياء كثيرة. ربّما تقلصت المسافة قليلا نحو الهويّة..”.

كان يُحدّثني، وكأنه يعرفني منذ أربعين عامًا.. أنا كنتُ أعرف إيدير وروائعه التي لن تموت في قلوب النّاس. فقد نشأ عليها جيلنا، وبقيت نوتةُ أفافا ينوفا، أبحري، أواه أواه، والسندو.. تهزّ المشاعر، وتبثُّ المتعة عند سماعها..أول ما سألته، كان عن سرّ تسميته إيدير بدل حميد، قال “ربما هو الخوف من الوالدين.. فقد كانت فكرة أحد أقاربي الذي نصحني بأن أصدر ألبومي الأول باسم إيدير حتى يستمر.. إيدير يعني الإنسان الحي أو الذي على قيد الحياة.. يعني أن أعيش أنا وأغانيَ دون علم والديّ!”. ولإيدير معنى آخر في لسان التوارق وهو الجذور..بقيتُ على تواصل مع إيدير، أو كما يُطلق عليه “قدّيس الأغنية القبائلية”، حيث نتبادل التهاني والرسائل في عديد المناسبات، وتكررت زياراته إلى الجزائر في السنوات الأخيرة، إذ أنّ همّهُ الأساس هو اقتناء سكن عائلي بالعاصمة، لأنّه ربّما بدأ يشعر بأن الغربة تلقي بأثقالها عليه، خاصّة مع متاعبه الصحيّة.. ففي إحدى زياراته في 2017، زرته في فندق سوفيتيل، حيث يفضل الإقامة لقربه من حديقة التجارب، وربّما لذلك علاقة بحاجته لمزيد من الأكسجين.. فكانت زوجته فرّوجة، وهي امرأة لطيفة جدّا، لم تفقد شيئًا من طباع المرأة القبائلية الحريصة على أدقّ التفاصيل من مأكل ومشرب زوجها إيدير، ولاحظتُ أنّها تضبط له كلّ شيء بدقة، وبكثير من الاحترام بينهما، بل إنّه لمحسودٌ على امرأة بهذه الخِصال.. قال لي “لقد اخترتُها سيّدة بيت وشريكة عمر، وأعتبر نفسي محظوظًا بها.. ولا أدري إن كانت هي محظوظة بي..”.

أقول صادقًا، لقد اكتشفتُ ساعتها أنّ حميد لو لم يكن أصيلاً ما ظلّ مرتبطًا بتقاليد بلدته آيت لحسن، ولا باعتزازه بأخذ اسم إيدير ، وهو الذي انتشرت ألحانه في كل العالم، حتّى أنّه قال لي “أحيانًا يفاجئني بعض الأصدقاء بتوظيف ألحاني في هذا البلد أو ذاك.. وأجدُ حرجًا في متابعة الذين يسطون عليها دون موافقتي.. وماذا عساني أفعل طالما أعجبتهم وأسعدتهم.”. قلتُ له ما رأيُك في حضور حفل بأوبرا الجزائر؟ فرحّب بالفكرة، واعتبر وجود قاعة أوبرا خطوةً كبيرةً في تعرف الجزائريين على الموسيقى العالميّة، خاصة مع وجود فرقة سيمفونية اكتسبت تجربة في التعاطي مع الأعمال الكبرى. عند وصولنا، كان الحفل قد ابتدأ بقيادة المايسترو أمين قويدر مع أوبرا ترافياتا Traviata للمؤلف الإيطالي فيردي، حيث تمّ الترحيب بإيدير، وصفّق له الجمهور كثيرًا، واحتفى به في نهاية الحفل، فحاصرته العائلات مرحّبةً به، مع أخذ توقيعه وصور معه.. ولاحظتُ أنّه شعر بسعادة بالغة، إذ كان متخوّفًا من أن أربعة عقود من الغياب ستمحو اسمه من ذاكرة النّاس.. أو ربّما تنسيهم ملامح وجهه.. فلم يعد إيدير ذلك الشاب ذو الشعر الطويل والنظارات الواسعة، لكنّه اليوم يمشي ببطء، بقبعة رمادية ونظارات شفافة.. لكن دون أن يخسر ابتسامته التي لا تعرفُ التّكلُّف. وفي اليوم الموالي، اصطحبته إلى الصالون الدولي للكتاب، وفي الطريق راح يكلّمني عن الفترة التي درسَ فيها الجيولوجيا، وكيف أنّه قاد فريقًا من الباحثين بمنطقة بوسعادة، وشرع يستحضر ذكرياته مع أهلها الطيبين، الذين لم يبخلوا عليهم بالماء والكسرة والقهوة.. وراح يشرح لي الطرق التي كانوا يستخدمونها في الحفر والتنقيب وتحليل المواد، والوصول إلى النتائج العلمية المطلوبة. قلت له لماذا لم تواصل البحث وقد أنهيتَ دراساتك العليا؟ أجابني، كعادته بأسلوبه المرح”حتى الموسيقى فيها جيولوجيا.. أنت تبحث في أعرق الإيقاعات للوصول إلى إيقاع جديد. فلو التحقتُ بشركة سونطراك، ما ولدت السندو.”.

وأضاف “اكتشفتُ أنّ الموسيقى أخذتني بعيدًا عن البحوث الجيولوجية التي أعشقها كثيرًا.. وما زلتُ أهتمُّ بها، على سبيل إنعاش الذاكرة بمتابعة البرامج التلفزيونية المتصلة بذلك”. في أجنحة صالون الكتاب كان منبهرا للحضور القوي، بينما كان الناس ينظرون إليه، ربما ليتأكدوا من أنّه هو.. فيقول لي “يبدو أنّني بدأتُ أسرقُ منكَ شعبيّتك..”، فأكتفي بالقول “أنتَ تجاوزتَ سقف العالميّة.. وتريدني أن أزاحمك في ذلك. يوجد إيدير واحد بهذه القامة هو أنتَ”. بعد أربع ساعات، رافقني إلى قاعة ابن زيدون لتكريم الصادق جمعاوي بعد خمسين عاما من العطاء مع البحّارة وبحضور أطفال من جنوبنا الكبير. عدنا إلى الفندق.. ليقول لي ” قلت لك، البلد تغيّر.. وأنا لم أتغيّر”، فاجأته بسؤال “متى تعود إلى جمهورك؟ أنت تغني في باريس وبروكسل ومونريال وتونس ومراكش وعواصم عالمية كثيرة وتحرم أجيالاً في بلدك من صوتك وأغانيك الجميلة..”. قال ضاحكًا “هل تعتقد أنّ الوقتَ مناسب؟.. لقد تحدثتُ مع مدير أوندا السيد سامي بن الشيخ في الأمر، واتفقنا مبدئيا، وأعتقد أن أفضّل مناسبة لذلك هي ينّاير خاصة بعد ترسيمه يومًا وطنيّا”.. فهمتُ حينها، أنّهُ فصل في الأمر.. وقرّر المجيء ووقفَ مقاطعته الفنيّة، بعد أنْ أخذت الهويّة الأمازيغية موقعَها الطبيعي في بنيةِ الشّخصيّة الجزائريّة، لغةً وإرثًا ثقافيا واجتماعيّا.. وأدركت أن إيدير انتقل في تلك اللحظة من موقف المناضل.. إلى موقع المواطن الذي يريدُ إسعاد عشاقه ومحبيه. فهو الأيقونةُ التي تشكّلت مع القناعة الفكرية والصبر والحكمة وإنتاج الفرح.بتاريخ 28 ديسمبر 2017 أرسلتُ إليه رسالة نصيّة وطلبتُ رأيه بعد إقرار يوم 12 جانفي من كلّ سنة “عيد يناير” يُحتفى به وطنيًا، فأجابني رحمهُ الله “مرحبًا عزيزي عزالدين، يؤسفني أنني لم ألتقِ بك قبل مغادرتي، وعلمتُ أنك في العمل. صحيح أن شرعية ينّاير هي خبرٌ ممتاز، وأنها تشير إلى تطور الأشياء بطريقة جيدة. بالإضافة إلى ذلك صديقي، أنا مقتنع بأن ينّاير وأحداث أخرى وغيرها من الضربات الصغيرة ستعمل على المدى الطويل على تغيير المشهد بأكمله، وكذا الذهنيات”.سألته كيف تنظر إلى لقائك مع جمهورك في حفلي القاعة البيضوية يومي 5 و6 جانفي 2018.

لم يفكّر طويلاً وقال لي سيحدث “التلاقي les retrouvailles”.. وراح يشرح أبعاد المعنى، في اللحمة والتواصل من جديد، بعيدًا عن السياسة والصراعات الإيديولوجية.. حيث لا مكان لهذه الأشياء في الحفل.. والدليل أنّه، تجاوز واحدة من أغانيه السياسيّة التي برمجها ضمن الحفلة الأولى، لكنّهُ فضّل عدم أدائها، حتّى لا يثيرَ حفيظة أحد.. وكان الحفلان، بحضور الآلاف، لحظةً تاريخيّة، ليس بالنسبة لإيدير وحده، بل للجمهور الذي تربى على إيقاعاته المتفردة، وللأجيال الجديدة التي سمعته عن بُعد وتعرفت عليه بعد أربعين عامًا عن قرب.. وكان التفاعل كبيرًا لدرجة قال لي في نهاية الحفل “كان عليّ أن أجلس معكم، وأترك المنصّة للجمهور.. إنه رائع”. وكان لحضور ابنته “ثانينا” التي أدت معه بعض أغانيه وقعًا خاصّا.. فقد اكتشفت مكانة أبيها أوّلاً.. وتأكّدت من أنّ جذورها ترتجف في أعماقها.. في وطنها.كان أملُ إيدير أن يقوم بجولة في أكثر من عشر مدن جزائرية، ولكن نال منه المرض، وحرمهُ من تحقيق حلم العودة أربعين عامًا إلى المسيلة وتيارت وعنابة وتلمسان وبجاية ووهران وتيزي وزو.. وزيارة بوسعادة التي قال لي “إذا ذهبنا.. لن أقبل بأقل من صحن زفيطي بيد عجوز من حي الموامين”.يختلف إيدير عن كثير من الفنانين، فهو مثقف جدّا، ويملك قراءات سياسية عميقة، يعبّر عن أفكاره بلغة بسيطة دون تعقيد، ولا يزعجه إذا اختلفت معه، كما أنّ أخلاقه عالية، متواضع بلا استعلاء وهادئ بلا رعونة، حيث يطغى على سلوكه البعد الإنساني، فهو سريعُ البداهة، حاضر الذهن، يُحسن التعبير بالنكتة الهادفة. كما أنه من أكثر الفنانين الذين التقيتهم تفتحًا على الثقافات، كونه قارئ جيد، وناقد ذكي، وأذكر أنّهُ حدّثني عن سي محمد أومحند كما تحدث عن المتنبي وقيمة شعره وقوة لغته، وتأسّف لأنه لم يتمكن جيّدًا من التحكّم في العربية الفصيحة، وربّما هذا ما جعله يتردّد في فترات سابقة في تلبية دعوات وصلته من مصر ولبنان والخليج..أمّا مسألة الدّين والمعتقد، فلم يحدث أن أثرتها معه، كونها بالغة التعقيد ومرتبطة بالنوايا والقناعات الفكرية، ولا يتحقق حولها التوافق أو الإجماع، وإن سجلتُ ميله إلى التسامح ونبذه لرفض الآخر.وداعًا حميد.. أيها الرجل الرائع الذي لم تأخذ منه غربة الأربعين عامًا روح الطفل الصغير الذي ظلّ يسكن أعماق جرجرة.. حميد، لا شيء يثبت على حاله، وكل شيء يتغيّر. قال شاعر الأمازيغية الأوّل سي محند أومحند: إنني أطاف الأوطان/ كلّ يومٍ/ غريبٌ/ أتمنّى لو تحوّلتُ إلى بيت..

حميد عليك رحمة الله.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: النسخ ممنوع !!